فزاعة الديون الوطنية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٣١/أغسطس/٢٠١٦ ٢٣:١٠ م
فزاعة الديون الوطنية

روبرت سكيدلسكي

يشعر أغلب الناس إزاء الدين الحكومي بقدر من القلق أعظم من ذلك الذي قد يساورهم عندما يتعلق الأمر بالضرائب. "ولكنها تريليونات"، هكذا صَرَخ أحد أصدقائي مؤخرا في الاحتجاج على الدين الوطني في المملكة المتحدة. الحق أنه بالَغ قليلا: فمجمل الدين 1.7 تريليون جنيه إسترليني (2.2 تريليون دولار أميركي). ولكن أحد المواقع على الإنترنت يُبرِز ساعة تُظهِر الدين ينمو بمعدل 5170 جنيها إسترلينيا في الثانية. ورغم أن حصيلة الضرائب أقل كثيرا، فقد جمعت حكومة المملكة المتحدة 750 مليار جنيه إسترليني كحصيلة ضريبية في العام المالي الماضي. والواقع أن القاعدة الضريبية تنمو أيضا كل ثانية، ولكن لا تُظهِر ذلك أي ساعة.
يرى كثير من الناس أنه برغم كون الضرائب الثقيلة سببا لتثبيط الهمم، فمن الأشرف والأنزه أن تقوم الحكومات بتحصيلها لتغطية إنفاقها بدلا من تكبد الديون. فالاقتراض في نظرهم ما هو إلا وسيلة لفرض الضرائب خِلسة. تساءل صديقي: "كيف يعتزمون سدادها؟ فَكِّر في العبء الذي سيتحمله أبناؤنا وأحفادنا".
ينبغي لي أن أقول إن صديقي متقدم في السن للغاية. ويمكنك أن تلاحظ الرعب من الديون بين كبار السن بشكل خاص، ربما بسبب شعور قديم بأن المرء لا ينبغي له أن يقابل خالقه وهو يحمل دفتر موازنة سلبيا. وينبغي لي أن أضيف أيضا أن صديقي تلقى تعليما جيدا للغاية، وقد لعب في الواقع دورا بارزا في الحياة العامة. ولكن تدبير الموارد المالية العامة لغز بالنسبة له: فهو يستشعر في قرارة نفسه أن بلوغ الدين الوطني تريليونات الجنيهات ونموه بمقدار 5170 جنيها كل ثانية أمر بالغ السوء.
لا ينبغي للمرء أن يعزو هذا الشعور الدفين إلى الأمية المالية. فقد تلقى هذا التصور دعما قويا من أولئك الذين يفترض أنهم مخضرمون في الموارد المالية العامة، وخاصة منذ الانهيار الاقتصادي عام 2008. الواقع أن الدين الوطني البريطاني يبلغ حاليا نحو 84% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة قريبة إلى حد خطير من النسبة التي حددها الخبير الاقتصادي كينيث روجوف من جامعة هارفارد (90%).
ولكن روجوف لم يتراجع عن زعمه، وهو الآن يعطينا سببا وراء شعوره بالانزعاج. فمع بلوغ ديون حكومة الولايات المتحدة 82% من الناتج المحلي الإجمالي، يكمن الخطر في "تحول صاعد سريع في أسعار الفائدة". وقد تستلزم التكاليف المالية المترتبة على هذا والتي "قد تكون هائلة" اللجوء إلى "تعديلات كبيرة في الضرائب والإنفاق". (الرمز الذي يعني عند أهل الاقتصاد زيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام)، وهو ما من شأنه أن يزيد من معدلات البطالة.
هذه هي الساق المالية التي تستند إليها حجة "المزاحمة" المألوفة. فكلما ارتفع الدين الوطني، وفقا لوجهة النظر هذه، كلما تعاظم خطر عجز الحكومة عن سداد ديونها ــ وكلما ارتفعت بالتالي تكلفة الاقتراض الحكومي الجديد. وهذا بدوره لابد أن يرفع تكلفة الاقتراض الجديد في القطاع الخاص. (ولهذا السبب يريد روجوف من حكومة الولايات المتحدة أن تعمل على "تثبيت" أسعار الفائدة الحالية المنخفضة بإصدار ديون أطول أمدا لتمويل البنية الأساسية العامة). وكان الحفاظ على أسعار فائدة منخفضة على قروض البنوك الخاصة من الحجج الرئيسية لخفض عجز الموازنة.
ولكن هذه الحجة ــ أو مجموعة الحجج (هناك أوجه مختلفة لها) ــ لصالح التقشف المالي غير صالحة. فالحكومة القادرة على إصدار ديون بعملتها من الممكن أن تحافظ على أسعار الفائدة منخفضة بسهولة. فالأسعار محكومة بمخاوف بشأن التضخم، وتوسع قطاع الدولة بشكل مفرط، واستقلال البنك المركزي؛ ولكن في ظل مستويات الدين المنخفضة نسبيا (يتجاوز دين اليابان 230% من الناتج المحلي الإجمالي) وكساد الناتج وانخفاض معدل التضخم، تصبح هذه الحدود بعيدة للغاية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وكما تشهد السجلات فإن الزيادات المستمرة في حجم الدين الوطني في كل من البلدين منذ الانهيار كانت مصحوبة بانخفاض في تكلفة الاقتراض الحكومي إلى ما يقرب من الصِفر.
ورغم أن الحكومات كررت هذه الحجة بلا نهاية منذ انهيار 2008 كمبرر للتضييق المالي، فقد أشار رجل الاقتصاد أ. ب. ليرنر إلى زيفها ومغالطتها قبل سنوات. إن العبء المتمثل في خفض الاستهلاك لدفع ثمن الإنفاق الحكومي يتحمله في واقع الأمر الجيل الذي يقرض الحكومة المال في المقام الأول. ويصبح هذا واضحا وضوح الشمس إذا جمعت الحكومة ببساطة المال الذي تحتاج إليه لتغطية إنفاقها من خلال الضرائب وليس باقتراضه.
وعلاوة على ذلك، فإن فكرة أن الإنفاق الحكومي الإضافي، سواء كان ممولا بالضرائب أو الاقتراض، من المحتم أن يقلل من الاستهلاك الخاص بنفس القدر تفترض أن الإنفاق الحكومي الإضافي لن يُسفِر عن أي تدفق من الدخل الإضافي ــ أو بعبارة أخرى تفترض أن الاقتصاد بلغ كامل طاقته بالفعل. ولم يكن هذا صحيحا في أغلب الدول منذ عام 2008.
ولكن في مواجهة هذه الشهادة المؤثرة (وإن كانت خادِعة مضللة) التي تؤكد العكس، فمن أكون أنا لكي أقنع صديقي المسِن بتجاهل شعوره الدفين عندما يتعلق الأمر بالتفكير في الدين الوطني؟
روبرت سكيدلسكي عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.