أ.د. حسني نصر
ربما تكون المرة الأولي التي أرى فيها هذا العدد الكبير من الحضور في ندوة ثقافية تحمل عنوانا غامضا وملتبسا، لا يعد بالكثير ولا يوحى بالجدة، وتتناول قضية فكرية وفلسفية مجردة قتلت بحثا، وهي قضية المثقف والسلطة.
الحضور الكبير والمتنوع الذي ازدحمت به قاعة ابن رزيق بمقر الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء مساء الأربعاء الفائت، يؤكد حالة الظمأ الفكري الذي يشعر به الكثيرون من الأدباء والكتاب والمثقفين لحوار جاد وموضوعي وجريء يبحث في نقاط التماس بينهم كمثقفين وبين السلطة أيا كان نوعها: سياسية أو دينية أو اجتماعية أو حتى إعلامية، وكيف يمكن الخروج من حالة تغييب الثقافة والمثقف والحضور الطاغي للسلطة في الواقع العربي. هذا الظمأ أحسنت استغلاله جمعية الكتاب والأدباء ونظمت ندوتها المتفردة في إطار الفعاليات الثقافية لمهرجان مسقط، وأفسحت فيها المجال لثلاثة أصوات فكرية عمانية متميزة للجلوس جنبا إلى جنب واقتسام الوقت مع المتحدث الرئيس الكاتب والمفكر اللبناني المعروف على حرب، صاحب الكتاب الشهير "أوهام النخبة أو نقد المثقف" والأعمال الفكرية النقدية التي أصبحت علامات بارزة في الثقافة العربية المعاصرة. هذا المزج بين الصوت العربي والأصوات الوطنية في الندوة كان مطلوبا، حتى وان لم يرض عنه البعض بمن فيهم الضيف الرئيس الذي عبر عن إحباطه من ضيق الوقت الممنوح له وهو القادم من الخارج خصيصا لهذه الندوة. وحسنا فعلت الجمعية بمنح الفرصة لكتاب وباحثين ومفكرين عمانيين وهم: خميس العدوي، وعبد الله الكندي، وخالد الوهيبي، لطرح رؤاهم وأفكارهم في الندوة، إذ انه من خلال هذه المشاركات الجادة تُصنع القامات الثقافية والفكرية.
على مستوى الموضوع أستطيع أن أزعم وبدرجة ثقة كبيرة أن على حرب لم يقدم جديدا، وأعاد طرح رؤاه السابقة التي تزدحم بها كتبه ومقالاته حول العلاقة المتبادلة بين المثقف والسلطة، وأنواع المثقفين الثلاثة وفقا لعلاقتهم بالسلطة السياسية، وهم: الموالي والمنشق والمحايد. ورغم تأكيده على طليعية الدور الذي يقوم به المثقف المعارض للسلطة الناقد للأنظمة والسياسات، إلا أن حديثه كان مجردا إلى حد كبير ولم يقدم نماذج عربية واضحة رغم كثرتها للمثقف المستقل الذي لا تقف وراءه سوى قامته الفكرية أو الأدبية، والمثقف المنخرط في حزب سياسي أو تجمع ثقافي أو مدني، والمثقف المنظّر وصاحب المشروع، إلا بعد أن طرحت القاعة أسماء عربية وعمانية بعينها خاصة للمثقف المستشار والمثقف الموالي للسلطة والمنخرط فيها. كان على حرب رغم جرأة كتاباته متحفظا في حديثه، وفاته أن يرصد تحولات المثقفين العرب التي ساهمت في ضعف أو تلاشي تأثير المثقفين في السياسة العربية. فالمثقف العربي غالبا ما يولد معارضا للسلطة ومنشقا عنها، ويكون في بداياته صاحب مشروع للتغيير، إلا أنه يتحول في أواسط العمر تقريبا، وبفعل ضغوط ومغريات كثيرة، وربما بفعل إحباط المناخ العام، إلى موالاة السلطة والعمل في خدمتها أو على أحسن تقدير إلى الحياد وهجر الشأن العام كله. في اعتقادي أن هذه التحولات تبدو أكثر أهمية في الواقع العربي من مجرد التحديد النظري لأقسام المثقفين، وربما تكون هي المسؤولة، ضمن أسباب أخري بالطبع، عن تردى الواقع العربي الثقافي والسياسي والديني والاجتماعي، لأنها تحول المثقفين من حملة لشعلة التقدم والتغيير إلى أدوات بطش ثقافي في يد السلطة، وقاطرات للاستبداد والقمع الفكري.
في المقابل كان الطرح في الأوراق الثلاثة التي قدمها باحثون عمانيون متميزا. وقد توفرت في هذا الطرح- من وجهة نظري- ثلاثة سمات أساسية، وهي: أنه كان طرحا جديدا، بمعنى أنه لم يكن مستهلكا أو معادا ومكررا كما كان الحال في طرح على حرب، والثاني أنه تميز بالواقعية الفكرية والجرأة، ولم يكن مجردا، وتضمن إسقاطا مباشرا سواء على الواقع العماني الخاص أو الواقع العربي العام. والسمة الثالثة أنه اعتمد على القراءة الناقدة للتاريخ العماني والعربي، واستخدم أدوات البحث العلمي والتفكير المنطقي، وانتقل بسلاسة من العام إلى الخاص ومن المقدمات إلى النتائج. ويكفي أن نشير هنا إلى نماذج لطروحات مهمة ومتميزة قدمها الباحثون العمانيون في هذه الندوة، ربما تحتاج إلى نقاشات موسعة عبر ندوات متخصصة تنظمها جمعية الكتاب والأدباء والمؤسسات المعنية بالثقافة في الدولة في المستقبل إن أرادت التأسيس لمشروع ثقافي فكرى عماني خالص.
من هذه الطروحات تأكيد خميس العدوي في ورقته "المثقف والسلطة الدينية" أن الدين في لحظة تنزله يأتي ثورة على الظلم والاستبداد ثم يتحول هو نفسه إلى سلطة قهر على يد اتباعه بعد رحيل النبي المؤسس". وفي ورقته المهمة "المثقف والخطاب الإعلامي" طرح الباحث والأكاديمي البارز عبد الله الكندي قضية تهميش وسائل الإعلام الحديثة للمثقف العربي والتي تحولت إلى التركيز على التقنيات والشكليات الحديثة، على حساب المضمون بالإضافة إلى تراجع صحافة النقد، وابتعاد المثقفين عن الإعلام بسبب تقلص مساحات حرية الرأي والتعبير في المجتمعات العربية. ويفتح ما طرحه الكندي الباب واسعا أمام جدل فكرى وتاريخي مهم حول دور وسائل الإعلام العربية في تعميم نماذج الاستبداد السياسي وتقليص دور المثقفين وربما تطويعهم ليكونوا في خدمة السلطة. فالمثقفون المرضي عنهم من جانب السلطة هم من تسلط عليهم الأضواء ويظهرون ليل نهار في وسائل الإعلام، بينما تمارس ضد المغضوب منهم والمغضوب عليهم كل أشكال الإرهاب الإعلامي التي تصل إلى حد التحريض عليهم والقتل المعنوي. وعلى نفس المنوال ميز خالد الوهيبي في ورقته "الجذور الثقافية المؤثرة في بناء الدولة الحديثة في عمان" بين الموروث التاريخي وبين مستجدات العصر، مؤكدا ضرورة التوفيق بينهما. ولعل أهم ما طرحه في هذا السياق أن مستجدات العصر التي نتفاخر باستيرادها من الأخر تحتاج دائما إلى المراجعة والتطوير لأنها- حسب قوله- متغيرة ومتبدلة وليست هي مآلات الطموحات الإنسانية.
اكاديمي بجامعة السلطان قابوس