مارك ليونارد
كانت المسألة الأوروبية بمثابة ملاك الموت بالنسبة للسياسة البريطانية ــ فقد أحدثت الانقسامات والشقاق داخل الأحزاب، وأنهكت الحكومات، ودمرت المستقبل المهني لكثيرين. ولكن المخاطر المحيطة بهذه المسألة لم تكن من قبل قَط بهذه الجسامة. فالقرار الذي اتخذه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بعقد استفتاء ــ ربما في يونيو ــ بشأن استمرار المملكة المتحدة في عضوية الاتحاد الأوروبي ربما يُسقِط حكومته ويدمر حزبه السياسي ويمزق بلاده إرباً حرفيا.
والآن، يبذل كاميرون قصارى جهده للتفاوض على شروط العضوية لإقناع الناخبين باختيار البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن الاستفتاءات مشهورة بعدم القدرة على التنبؤ بنتائجها. ولا يوجد من الأسباب ما قد يدعونا إلى الاعتقاد بأن العواصف الشعبوية التي تجتاح القارة بالكامل لن تهب على المملكة المتحدة.
الواقع أن قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يدمر الاقتصاد البريطاني ويقلل إلى حد كبير من مكانة بريطانيا الدولية. والأمر الأشد سوءاً هو أن هذا القرار قد يؤدي إلى تفكك المملكة المتحدة. فقد هدد الحزب الوطني الاسكتلندي بعقد استفتاء ثانٍ على الاستقلال إذا قرر الناخبون البريطانيون ترك الاتحاد الأوروبي. ويزعم قادة الحزب الوطني الاسكتلندي أن هذا من شأنه أن يسمح لاسكتلندا المستقلة بالبقاء جزءاً من أوروبا، حتى وإن قررت إنجلترا وويلز وأيرلندا الشمالية خلافاً لذلك.
وإذا حدث هذا فإن تقطيع أوصال المملكة المتحدة كفيل بجعل إرث كاميرون الأسوأ بين كل رؤساء الوزراء في تاريخ بريطانيا. وقد يبدو هذا أمراً بعيد الاحتمال، نظراً لارتباط لقب أسوأ رئيس وزراء عادة بنيفيل تشامبرلين، الذي اشتهر بمحاولة استرضاء أدولف هتلر. ولكن برغم أن المخاطر كانت بكل تأكيد أعلى كثيراً في حالة تشامبرلين، فإن سياساته كان من الممكن إبطالها على الأقل قبل أن تدمر البلاد (وهذا هو ما فعله ونستون تشرشل على وجه التحديد). وإذا خسر كاميرون الاستفتاءين بشأن كل من الاتحاد الأوروبي واسكتلندا، فإن رؤساء الوزراء من بعده لن يتمكنوا من إعادة الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة إلى سابق عهدها.
وفي حين يحارب كاميرون لإنقاذ حزبه وبلاده، فربما يكون بوسعنا أن نستعير كلمات أوسكار وايلد: "فكل إنسان يقتل الشيء الذي يحب". ويتلخص مأزق رئيس الوزراء في أن قوته السياسية تعتمد على قدرته على تمديد غطاء حزب المحافظين على شركاء الوطن من القوميين والأصوليين من أنصار السوق الحرة؛ ولكن المسألة الأوروبية تعمل على تأليب كل جانب ضد الآخر.
من منظور رأس المال والشركات الكبرى، تشكل عضوية الاتحاد الأوروبي حتمية اقتصادية، حيث توفر القدرة على الوصول إلى 500 مليون مستهلك واحتياطي كبير من اليد العاملة الرخيصة المؤهلة. أما من منظور القوميين، فتشكل العضوية تهديداً يقوض السيادة البريطانية ويسيطر على حدود البلاد. كانت دعوة كاميرون لعقد الاستفتاء، والتي أطلقها أول مرة عندما كان في المعارضة، مجرد محاولة لاسترضاء الجانبين، والسماح لكل منهما بالتمسك بمبادئه، في حين وَعَد بإعطاء الناخبين الكلمة الأخيرة. وقد بدأت المتاعب عندما أصبح رئيساً للوزراء واضطر إلى اختيار أحد الجانبين.
ومن حسن حظ كاميرون أن عوامل عديدة تصب في صالحه. والحقائق واضحة: فكل من اقتصاد المملكة المتحدة، وأمنها، ومكانتها الدولية، تستفيد من عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي عموم الأمر، يميل مجتمع المال والأعمال، والنقابات، والبرلمان، ووسائل الإعلام، بل وحتى أكثرية الرأي العام البريطاني، إلى البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى، يظل لزاماً على معارضي عضوية الاتحاد الأوروبي أن يقدموا بديلاً ذا مصداقية.
وعلاوة على ذلك، يتمتع كاميرون بسجل حافل من تجاوز التوقعات. فقد توقع قِلة من الناس أن يتمكن من السيطرة على حزبه عندما شن حملته لقيادة الحزب في عام 2005. وعندما وصل المحافظون إلى السلطة في عام 2010، تشكك كثيرون في قدرته على البقاء إلى نهاية فترة ولاية كاملة رئيساً للوزراء. وحتى كاميرون ذاته لم يتوقع الفوز بأغلبية مطلقة في الانتخابات العامة العام الماضي.
ولكن ليس هناك ما قد يضمن استمرار نجاحه. ذلك أن الأنباء الواردة من أوروبا كانت قاتمة إلى حد كبير، وقد تؤثر هذه الأنباء على نتيجة الاستفتاء في نهاية المطاف. كما تعمل أزمة اللاجئين، والهجمات الإرهابية، والتأثيرات المتخلفة عن الأزمة الاقتصادية العالمية على تأجيج المشاعر المعادية للمهاجرين.
لقد استفاد كارهو الأجانب والمتطرفون في مختلف أنحاء القارة كثيراً من المخاوف بشأن الهجرة ومشهد أوروبا المقسمة المعطلة. والواقع أن الهجمات الإرهابية تستهدف بطبيعتها استفزاز ردود فِعل غير عقلانية (كما يتضح من الاستفتاء الأخير في الدنمرك، حيث رفض الناخبون على نحو غير متوقع اقتراحاً بتعديل اختيارات رفض التقيد ببعض القواعد التنظيمية التي تتعلق بالشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي).
يزعم حلفاء كاميرون أنه ليس أمامه أي خيار سوى إبداء الشعور بالرضا عن الذات أو الذعر. وحتى وقتنا هذا، واجه كاميرون تحدي الاستفتاء بهدوء. ولكن هذا من المرجح أن يتغير مع اقتراب موعد التصويت ونمو خطر أن يتذكره الناس باعتباره الزعيم الذي عندما أرغمته الظروف على الاختيار بين حزبه وبلاده اختار حزبه ثم انتهت به الحال إلى خسارة الاثنين.
مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.