فوضى روسيا بدأت منذ عام 1991

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٤/أغسطس/٢٠١٦ ٢٢:٤٩ م
فوضى روسيا بدأت منذ عام 1991

جيمس هاينزن

لقد شاهدت الفوضى الروسية الحالية قبل 25 عاما في موسكو، كان الاتحاد السوفيتي يتفكك من حولي، عندما كنت طالب دراسات عليا في جامعة ولاية بنسلفانيا في التاريخ الروسي وكنت أمضي عام في موسكو أبحث في أرشيف الحزب الشيوعي السوفيتي الذي رفع عنه السرية مؤخرا آنذاك. وبينما كنت منهمكا في الوثائق التي كشفت تفاصيل مذهلة عن فترة ما بعد الثورة الروسية عام 1917، كان الاتحاد السوفيتي يشهد ثورة جديدة 1991-1992.
ورغما عن أن الأوضاع في الشارع كانت تبدو منظمة إلا أن ما خفي تحت سطح الأحداث كان ينبئ عن حالة من عدم الاستقرار. وفشل الانقلاب الهزلي من قبل الكي جي بي وبعض كبار القادة العسكريين في أغسطس 1991 في الإطاحة بالاصلاحي ميخائيل جورباتشوف من منصبه. بيد أن محاولة الانقلاب تسببت في إثارة سلسلة غير متوقعة من الأحداث التي بلغت ذروتها في انهيار الاتحاد السوفيتي في غضون أشهر، فانهارت الدولة الشيوعية القديمة وتشكلت حكومة جديدة هشة، تحت قيادة بوريس يلتسين.
ووسط هذه الفوضى وبينما كنت أسير في أحد الأيام قرب الساحة الحمراء وجدت نفسي محاطا بنحو 10 أطفال صغار من الغجر، وفاجأني بعضهم أن تعلقوا بالحقيبة التي كنت أحمل بداخلها ملاحظاتي الثمينة التي أودعتها أشهر من العمل في المحفوظات. وفيما كنت أجاهد في التمسك بالحقيبة إذ بواحد منهم يخطف محفظتي من جيبي بمهارة، وفي لمح البصر اختفوا من أمامي في كل اتجاه.
وتوجهت على الفور إلى أقرب مركز للشرطة للإبلاغ عن الجريمة، وعندما شرحت الواقعة إلى الضابط المسؤول، دعاني بأدب إلى مكتبه. وبعد قليل من الدردشة، أخبرني أن هناك مقابل مادي يجب أن أدفعه للشرطة والنيابة العامة لمتابعة الجناة. وكانت مفاجأة بالنسبة لي وأجبته: لا لن أدفع رشوة للشرطة.
والحقيقة أنه قبل رفضي بلا مبالاة، ثم قدم لي الشاي والكعك وأعقبه بنصيحة أبوية: إذا كنت ترغب في حماية نفسك إذهب واشتري هراوة من ذلك النوع الذي يحمله أفراد الشرطة، وإذا اعترضك أي من الغجر اضربه بها.
وسألته ماذا سيكون رد فعل الشرطة إذا رأتني أتجول في شوارع موسكو وأضرب أبناء الغجر بتلك العصا، وبعد أن فكر لبرهة أجابني: أعتقد أننا سنقول " شكرا لك". وعندنا لاحظ الصدمة على وجهي عقب قائلا: هل تعرف أن هتلر كان قد وضع الغجر في معسكرات الاعتقال؟
هذه المحادثة المثيرة للقلق تعكس بعض التوجهات القاتمة التي أصبحت أكثر ظهورا في السنوات الأخيرة متمثلة في الفساد والقومية المتطرفة وعدم احترام سيادة القانون، والتي تزدهر جميعها في تربة التفكك الوطني.
فالانهيار الكامل للاقتصاد وارتفاع معدلات التضخم الجامح لأكثر من 2000 في المئة خلال عام واحد، أدى الى ضياع المدخرات وجعل معاشات التقاعد لا قيمة لها تقريبا، وبشكل مفاجئ غذى الفقر حالة من العداء العام تجاه كل مظاهر الفوضى والظلم التي جلبتها الأسواق الحرة للنظام الرأسمالي. ولم تتعاف الطبقة الوسطى في روسيا تماما حتى الآن.
ويبدو أنها مأساة مستمرة يشهدها التاريخ الروسي بظهور حالة عدم يقين اقتصادي متزامنة مع الموجة الأولى من زعماء ما بعد الاتحاد السوفيتي وإدخال الإصلاحات الديمقراطية والأسواق الحرة، ما أدى الى الانتقاص منها في عيون الكثير من السكان. وتزامن مع ذلك أيضا إثارة الفساد المستشري من قبل النخب السياسية والاقتصادية لمزيد من الشكوك بين المواطنين العاديين حول الديمقراطية الجديدة. والحقيقة ان تفشي حالات الرشوة بين المسؤولين المحليين انعكست في تردي معنويات السكان. وفجأة بدا أن كل شيء في روسيا معروض للبيع، كما تم نهب الشركات المملوكة للدولة من قبل أفراد يعملون فيها.
وقبل سقوط الشيوعية لم تكن حتى المحارم الورقية متوفرة في المتاجر، والآن يمكن الحصول على أي شئ بالمال والاتصالات. وإبان العهد السوفيتي تطورت الرشوة الى شكل من أشكال الفنون، ولأن القبض على المرتشي يمكن أن يؤدي به الى السجن كان البيروقراطيون يحرصون على إتمام الرشى في ظل حالة من التخفي، ولكن كما شاهدت في شبه الفوضى في مرحلة ما بعد انهيار روسيا، كان البيروقراطيون لا يمانعون في أخذ الرشوة جهارا، بل كانوا يفضلون عقد صفقات الرشوة بصورة مباشرة وسريعة ونقدا.
حتى العدل كان معروضا للبيع تماما مثل أي شيء آخر، وكانت تجربتي في مركز الشرطة مثال صارخ على التجاهل التام والمتكرر لسيادة القانون. وما تزال حالة عدم المساءلة مستمرة حتى اليوم بتشجيع من الدولة الاستبدادية. ومثل الشرطي الذي قدم لي الشاي يوجد الكثير الآن ممن يؤمنون بالقومية الروسية، على أهبة الاستعداد للتضحية بالأقليات غير الروسية وتشويه صورتهم بسبب الموجة العاتية من المشاكل التي يعانون منها.
وربما كان اقتراح الضابط أن أتولى الأمر بنفسي في التصدي لمن يتعرض لي من الغجر يحمل حالة متجذرة من الشك من الغرباء على اساس عرقي. وبالنسبة لهذا الضابط ولكثير من الروس يبدو أن أفضل الوسائل للحصول على العدالة أن يكون معك رشوة في يد وعصا في الأخرى.
ويمكن للمتأمل أن يلمح جذور شعبية بوتين والقوميين الروس المتشددين في أشهر الفوضى التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991. والواقع أن بوتين لم يخترع التوترات الاجتماعية وعدم اليقين الاقتصادي والعداء القومي الذي ميز روسيا في سنوات عدم الاستقرار، ولكنه فقط استفاد منها بخبرة غير عادية لتعزيز سلطته.

أستاذ التاريخ في جامعة روان ومؤلف كتاب "فن الرشوة: الفساد في عهد ستالين، 1943-1953".