بعد 100 عام.. يقاضون "وعد بلفور"

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٢/أغسطس/٢٠١٦ ٢٣:٠٤ م
بعد 100 عام.. 
يقاضون "وعد بلفور"

غازي السعدي

في خطوة غير مسبوقة، فاجأت الجميع، وأثارت ردود فعل متباينة، أعلن الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، من خلال خطابه الذي ألقاه نيابة عنه وزير خارجيته "رياض المالكي"، في مؤتمر القمة العربية رقم (27) الذي عقد مؤخراً في موريتانيا، أعلن أن السلطة الفلسطينية تسعى لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لمنحها الوعد المشؤوم المعروف بوعد "بلفور"لليهود، الذي حمل توقيعه بوصفه وزير خارجية بريطانيا آنذاك، واسمه الكامل "آرثر جيمس بلفور"، في رسالة قبل مئة عام وجهها إلى الملياردير اليهودي اللورد ليونيل روتشيلد"، والذي أدى إلى نكبة الشعب الفلسطيني، هذا الوعد الذي منح وطناً قومياً لليهود في أرض فلسطين، بينما لم يكن يزيد عددهم آنذاك على 5% من مجموع السكان الفلسطينيين، وبعد مرور (30) عاماً على هذا الوعد، وبالتحديد في عام 1947، جرى تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، بصورة تميل حدود التقسيم والمساحة لصالح اليهود، فأقامت الحركة الصهيونية دولتها اليهودية على أراضي الشعب الفلسطيني، ووضعت يدها واحتلت الأراضي المخصصة للدولة العربية، ولم تكتف بما خصص لها في قرار التقسيم والذي يشكل جوهر الصراع.
ولو عدنا عقوداً إلى الوراء لمعرفة كيف حصلت الحركة الصهيونية على الوعد، فهناك أسباب عديدة أهمها نفوذ الصهيونية وغياب التأثير العربي والدور العربي، واشتراط الحركة الصهيونية في الحرب العالمية الأولى مساندة الحلفاء في هذه الحرب، بتشكيلها فرقة عسكرية خاصة باليهود، تقاتل إلى جانب الحلفاء، ليكون بإمكانها ابتزاز بريطانيا العظمى، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، فيما تطوع عشرات آلاف العرب والمسلمين، في القتال إلى جانب الحلفاء، فراداً ودون شروط وهدف، فاليهود لم تتوقف استفادتهم بالحصول على وعد بلفور، بل استفادوا أيضاً من التجربة القتالية، التي وفرت لهم الخبرة العسكرية في حرب عام 1948 ضد الجيوش العربية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر فقد خدم عيزرا وايزمن-الذي أصبح فيما بعد رئيساً لإسرائيل- كطيار حربي إلى جانب الحلفاء، وكان في حرب عام 1948 أول طيار قاد طائرة عسكرية إسرائيلية، ضد الجيوش العربية في حرب فلسطين والأمثلة كثيرة، لكن هناك مساراً آخر، تحاول إسرائيل واليهود إخفاؤه حالياً لأسباب معروفة، أن اليهود تعاونوا أيضاً وحاربوا إلى جانب قوات ألمانيا النازية، بعد أن رسمت لنفسها سيناريوهين، فإذا انتصر الحلفاء في هذه الحرب فإنها ستحصل على وعودهم بإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، أما إذا انتصرت ألمانيا النازية التي شارك اليهود إلى جانبها أيضاً في حربها ضد الحلفاء، فإنها ستحصل منهم وتطالبهم بالثمن، أما الاستفادة الأهم في إقامة إسرائيل، كانت الرواية الصهيونية التي استغلتها لكسب عطف العالم، في موضوع المحارق النازية من جهة، ويقال أن دول أوروبية عديدة، أيدت إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، للتخلص من شرهم وسيطرتهم على اقتصاد هذه الدول.
إن وعد بلفور هو وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وأنه لا يملك هذا الحق، الذي يجد فيه الفلسطينيون جذور مصيبتهم الوطنية، التي أدت إلى نكبتهم، وشتتهم في أنحاء المعمورة، والسؤال: هل هناك جدية فلسطينية في رفع قضية ضد بريطانياً على خلفية وعد بلفور؟ ففي إسرائيل يرون بهذه القنبلة الفلسطينية- لرفع دعوى ضد بريطانيا -سخيفة وغير جدية، مع أن من معارضي إقرار وعد بلفور كان الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية "آدفين مونتغيو"، الذي وقف على رأس المعارضين في الحكومة البريطانية، حيث رأى بوثيقة "بلفور" وثيقة لا سامية، وأنه لا وجود -حسب رأيه- لشيء يسمى الشعب اليهودي، وينفي ارتباط اليهود بفلسطين، فيما رأى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك لويد جورج، ووزير خارجيته بلفور بأن عودة اليهود إلى فلسطين، حدث تاريخي من الدرجة الأولى.
قنبلة عباس بسعي السلطة الفلسطينية لمقاضاة بريطانيا أثارت غضب رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، وهو يتوقع فشل مساعي السلطة بمقاضاة بريطانيا بسبب وعد بلفور، وشكك في جدية القرار الفلسطيني، واستغل "نتنياهو" هذا الموضوع ليقول مخاطباً دول العالم، ومن داخل إسرائيل، بأن السلطة الفلسطينية لا ترفض الدولة اليهودية فحسب، بل ترفض حتى إقامة البيت اليهودي الذي حمله وعد بلفور، والذي سبق إقامة الدولة، وقال:"أن هذا يسلط الضوء على جذور الصراع، وهو الرفض الفلسطيني الاعتراف بالدولة اليهودية مهما كانت حدودها، وهذا كان وما زال لب الصراع، أما الكاتب الإسرائيلي "دان مرغليت"، ففي مقال له في جريدة "إسرائيل اليوم" تحت عنوان "عباس ووعد بلفور"، وصف مقاضاة بريطانيا بالسخيف، واعتبر هذه النية المبيتة هي تعبير عن حالة اليأس للرئيس الفلسطيني، الذي يأمل في مقاضاة بريطانيا، وأن يضع بريطانيا في قفص الاتهام، على ورقة من عام 1917، ليؤدي ذلك إلى انهيار المبرر الصهيوني، بأنه برج ورقي منذ ذاك الوقت وحتى النهاية، متهماً الرئيس الفلسطيني بالتحريض، وأن ذلك لا ينسجم مع التوجهات لحل ما يسمى بالدولتين، فأين هو حل الدولتين؟ الذي تسعى حكومة إسرائيل على تدميره، والذي أصبح شعاراً للدعاية فقط دون أي أثر له على الواقع وعلى الأرض، واتهم هذا الصحفي خطوة الرئيس عباس بأنها خطوة تصعيدية، لنزع الشرعية عن إسرائيل، لما لا طالما أن إسرائيل في واد آخر، وتعتبر أن حدودها تمتد من النهر إلى البحر، وهي تقيم المستوطنات حسب ادعائها في أرضها، وتغلق جميع أبواب الحل للقضية الفلسطينية، أما وزير الجيش السابق "موشيه آرنس" في تعليقه على مقاضاة بريطانياً، قال بأن وعد بلفور، وقرار التقسيم، وإقامة إسرائيل، والحروب الإسرائيلية، له الفضل الذي أدى الى نشوء الوعي القومي الفلسطيني، ونشوء أمة فلسطينية، وبروز السلطة الفلسطينية.
لا ننكر أنه كان نجاحاً للسلطة الفلسطينية على الصعيد الدولي، والتعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني، وفي عزلة إسرائيل الآخذة بالاتساع ومقاطعتها، ولكن لا شيء على الأرض، السؤال: إذا كنا واثقين من هذه الخطوة في مقاضاة بريطانيا العظمى، فلماذا تأخرنا (100) عام على اتخاذ هذا القرار؟ ولنفترض أن السلطة جادة ورفعت القضية، فهل تستطيع سحب الوعد المشؤوم الذي كرسته الحركة الصهيونية على أرض فلسطين؟ أم أنه وفي أحسن الأحوال، أن تحصل السلطة-إذا ما نجحت بالمحاكمة- على اعتذار من بريطانيا؟ وهذا بحد ذاته إنجاز وإيجابي إن تحقق، لأن ذلك مغزاه اعتراف الحكومة البريطانية، بأنها ارتكبت خطأ تاريخياً بحق الشعب الفلسطيني، وتعمل على الاعتراف بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن مثل هذا الاعتذار سيلزمها بجملة من المسؤولية المادية والأخلاقية والأدبية، تؤدي إلى استنساخ، تجربة ألمانيا مع الحركة الصهيونية، التي اعترفت بالمحرقة النازية، التي ألزمتها بتقديم مليارات الدولارات لإسرائيل، وما زالت تقدم، وهذا يعني تقديم التعويضات المالية للفلسطينيين، عن معاناتهم على مدار عشرات السنوات الفائتة وتشتتهم.
هناك أمور ملحة يتطلب من السلطة الفلسطينية التركيز عليها وإعطائها الأولية، فلا يكفي الحديث عن جرائم الحرب من قبل إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وتكرارها، ولا يكفي أن الملفات وصلت إلى محكمة جرائم الحرب الدولية، فقد طال الانتظار، ولا أحد يعرف ماذا ستكون قرارات المحكمة الدولية، فهل هي قادرة على وقف الاستيطان ونهب الأراضي وفرض إقامة الدولة الفلسطينية، وباعتقادي ومنذ وصول "نتنياهو" للحكم عام 2009، كان يجب تفجير القنبلة الفلسطينية بحل السلطة الفلسطينية، فقد كان الاحتلال ينفذ مخططاته التوسعية باستحياء، بينما أصبح اليوم ينفذها بالعلن، حتى وصل عدد المستوطنين إلى ما يقارب (700) ألف مستوطن، فحل السلطة كان سيهز إسرائيل بالعمق، إضافة إلى تأثيره سلباً على الولايات المتحدة، والمجموعة الأوروبية، لتعيد القضية إلى البداية، حتى أصبح حل السلطة حالياً متأخراً، ولا نعرف إلى أين ستأخذ السلطة شعبها وقضيتهم المقدسة، فإسرائيل أقامت شارعاً بالقدس الغربية يحمل اسم "بلفور" مكافاة لوعده، وأن رئيس الوزراء "نتنياهو" يسكن في هذا الشارع، فمقاضاة بريطانيا أصبحت متأخرة، وكما يقول المثل، "كل تأخيرة وفيها خيرة"، إذا كانت هذه المقاضاة مقرونة بالنجاح.

مدير دار الجليل للنشر والدراسات الفلسطينية