حرفة النحاس في الجزائر.. هل تُصبح أثراً بعد عين؟

مزاج الاثنين ٢٢/أغسطس/٢٠١٦ ١٥:٥٧ م
حرفة النحاس في الجزائر.. هل تُصبح أثراً بعد عين؟

الجزائر- العمانية

قبل سنوات خلت، كانت العروس في الجزائر تُزَفُّ إلى عشّ الزوجية محمّلة بالكثير من أواني النحاس، فضلاً عن مئات الكيلوجرامات من الصوف الذي يُستخدَم في صناعة بعض ما تحتاجه البيوت من أفرشة وأغطية. ولهذا ازدهرت صناعة النحاس، خاصة في الحواضر الجزائرية الكبرى، ووجدت هذه المهنة المئات ممّن احترفوها. وإلى غاية اليوم، تحتفظُ العائلات الجزائرية ببعض تلك الأواني، التي تكاد تُصبحُ تراثاً ثقافياً، ولا تتردّدُ في التوجُّه بها إلى القلّة القليلة المتبقية من محالّ صناعة النحاس من أجل تلميعها على الأقل مرّة في السنة. لم تخلُ الحكومات المتعاقبة من وجود حقيبة وزير تُسندُ إليه مهام النهوض بالصناعات التقليدية، ومع ذلك كلّه، تقف الكثير من تلك الصناعات، وعلى رأسها صناعة النحاس، على حافة الاندثار، وهي نتيجة اجتمعت الكثير من العوامل والظروف للدفع باتّجاهها وتكريسها على أرض الواقع. تُصنَّف حرفة النحاس على أنّها من الحرف التقليدية التي كانت تستقطب الكثير من الحرفيين على مستوى ما يُقارب 24 ولاية، ما يُشكّل نصف ولايات الجزائر. وتحظى مدينة قسنطينة (شرق الجزائر) وحدها بنصف عدد هؤلاء الحرفيين متبوعة على التوالي بالجزائر العاصمة وبجاية. في حيّ القصبة العتيق، يقوم بعض الحرفيين بالتركيز على أعمال تلميع الأواني النحاسية التي عادة ما يُفضّل أصحابها الاحتفاظ بها برّاقة لمّاعة أمام الضيوف. وتحتاج عمليات التلميع إلى أنامل محترفة، ناهيك عن ملكة الصبر وطول النفس. يكشف محمد، صاحب محل لصناعة النحاس بباب الواد بالجزائر العاصمة، لوكالة الأنباء العمانية: "أقوم بهذا العمل منذ عشرات السنين، وقد كان والدي، رحمه الله، معلمي الأول الذي تشرّبتُ على يديه فنون هذه الحرفة. الكثير من الزبائن الذين يقصدون هذا المحلّ، يعتقدون للوهلة الأولى أنّ تلميع آنيةٍ من نحاس عملية سهلة، وعندما يقفون على مراحل المهمّة، يعترفون بصعوبتها". ويضيف الرجل الستيني: "لقد كنّا في خمسينات القرن الماضي وستيناته، نقوم بأعمال كثيرة أهمُّها النقش على الأواني النحاسية، وهي عملية شاقة لا يقوم بها إلا الحرفيون المتمرّسون، لكنّنا اليوم مع عزوف الجزائريين عن اقتناء مثل تلك الأواني النحاسية، أصبحنا نكتفي بأعمال التلميع، أو إصلاح ما فسد من تلك الأواني النحاسية، إضافة إلى أنّنا أضفنا بُعدا آخر إلى عملنا، وهو المتاجرة، أي بيع الأواني والمصنوعات النحاسية وشراؤها". وتختلفُ أسعار السلع والأواني النحاسية التي يعرضها محمد في محلّه تبعاً للحجم، لأنّ النحاس من المواد الأولية غالية الثمن، وأيضاً تبعاً للقيمة التاريخية، ويُمكن أن تصل أسعار بعض القدور الكبيرة ذات القيمة التاريخية إلى 2000 يورو. وغير بعيد عن محل محمد، يوجد محل آخر يملكه عمار ولد أحمد (53 سنة)، ورغم مساحة هذا المحل التي لا تتجاوز تسعة أمتار مربعة، إلا أنّ الأواني المكدّسة داخل المحل، وأمامه على الرصيف، تجعلك تتساءل كيف يتمكّن صاحبها من عرضها بصفة يومية على هذا الشكل، دون أن يُفكر في ترك هذه المهنة الشاقة التي احترفها منذ عشرات السنين. يرى عمار ولد أحمد أنّ سبب تعلُّق بعض العائلات الجزائرية لليوم بالنحاس، يعود إلى "الروابط التاريخية التي تشكّلت على مدار مئات السنين، وكانت فيها الآنية النحاسية تُمثّلُ بهجة البيت". ويضيف: "لكنّ تلك الأواني صارت اليوم مجرد ديكور تُزيّن به البيوت، ولهذا أصبحنا نشكو من قلة الإقبال على بضاعتنا التي، إن لم تجد من يدعمها، سيكون مصيرها إلى زوال". ورغم العديد من الإجراءات التحفيزية التي خصّصتها الحكومة لصالح هذه الفئة من الحرفيين، كتخفيض الضرائب، ومنح بطاقات مهنية، وإنشاء غرف محلية للصناعات التقليدية والحرف عبر ولايات الجمهورية، إلا أنّ صناعة النحاس تتوارى شيئاً فشيئاً بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية، وأيضاً بالنظر إلى عدم وجود استراتيجية واضحة وناجعة لتسويق منتجات الحرفيين. وبخلاف الجزائر العاصمة، ما تزال مدينة قسنطينة تضخُّ بعض الدماء في شارع النحّاسين نتيجة الإقبال الذي تعرفه عاصمة الشرق الجزائري على الأواني والمنتجات النحاسية، خاصة تلك التي تُستخدم في الزينة بسبب زخارفها ونقوشها المتقنة. ويتميّزُ حرفيو النحاس في قسنطينة بكونهم ابتدعوا أساليب مبتكرة لاستمالة الزبائن مثل نقش الأسماء على بعض التذكارات ووضع الصور على التحف الفنية، وصناعة نماذج مصغّرة من النحاس لبعض الأواني التي كانت تستعملها العائلات في قسنطينة، وهي تصلحُ أن تُقدّم كهدايا في المناسبات المختلفة. ومن المبادرات التي قامت بها الحكومة الجزائرية ممثلة في وزارة الثقافة لتحفيز حرفيي النحاس بولاية قسنطينة، أنها وضعت أمامهم سنة 2011، بمناسبة احتفالية تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية، مشروعاً ضخماً تمثّل في تزويد قصر الثقافة عبد الكريم دالي بثريات ضخمة من النحاس إضافة إلى تحف أخرى متنوعة، وهو التحدّي الذي اجتازه حرفيو النحاس بجدارة، ولا شك أنّ من يزور هذه التحفة المعمارية الفريدة، يُلاحظ البصمات الخالدة التي وضعها الحرفيون على تلك القطع المميّزة والفريدة التي تتحدث عن العبقرية الجزائرية عندما تجد من يقف بجانبها.