ماذا نكتب؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/يناير/٢٠١٦ ٢٣:٣٠ م
ماذا نكتب؟

زاهي وهبي

ماذا نكتب ولماذا؟
ما من كاتب الا وطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة.
هل ترك لنا الأسلاف ما يُقال؟ قارىء الإرث العظيم في الأدب العربي شعراً ونثراً يُصاب بكثير من الرهبة والتردد كلما أمسك بالقلم، سائلاً نفسه هل ظلّ ما يمكن أن يقوله؟ هل في استطاعته اضافة حجر جديد الى العمارة الإبداعية العربية الشاهقة التي أسمتها العرب الصناعتين، أي الشعر والنثر؟
لو لم يكن لدى الكاتب الإيمان بأن لديه ما يضيفه لما كتب حرفاً. القناعة بأننا نمتلك جديداً هي منطلق الكتابة وحافزها. قد يخطىء الكاتب الظنّ فلا يضيف جديداً الى ما خطّه الأسلاف، لكن اقتناعه شيء والنتيجة شيء آخر، الأيام كفيلة بالحُكم والغربلة. مَن منا يعرف كم كان عدد الشعراء في زمن المتنبي؟ من بين الألاف لم يصل إلينا سوى أصحاب الموهبة العابرة للزمن، وكل موهبة حقيقية بالضرورة عابرة للزمن. لا أحد يستطيع كبت الموهبة وقمعها سوى صاحبها اذا اختار الصمت وعدم التعبير عما لديه. كل المحاولات الأخرى لقمع الموهبة والحيلولة دون تَفَتُّحها تذهب أدراج الرياح. تستطيع السلطات السياسية والأمنية والدينية اعتقال شاعر أو إعدامه، لكن مَن ذَا الذي يستطيع اعتقال قصيدة أو قتلها، مَن يستطيع حبس فكرة. الأفكار مثل العصافير تنبُت لها أجنحة وتغدو قادرة على الطيران. كلما ازدادت الأفكار حرية كلما ازدادت مقدرتها على الطيران والتحليق في فضاءات أكثر علواً واتساعاً. لذا على صاحب الموهبة الاعتناء بها والحرص عليها، وصقلها بالثقافة وتراكم المعرفة والتجارب، وعدم تركها أسيرة الاهمال والكسل، لأنها في هذه الحالة تُصاب بالخمول والترهل ويعتريها صدأ الأيام وركام الهموم والشجون التي تصيب الانسان في جلجلة طويلة تدعى الحياة.
المبدع الحقيقي هو مَن يقدر على تحويل تجاربه في الحياة، سواء كانت مفرحة أم مؤلمة، الى مصادر الهام وينابيع دهشة. ولئن كان مفهوماً استغراق الانسان في لحظات الفرح وانصرافه اليها وعيْشِها الى حدّ نسيان ما عداها، فإن لحظات الألم تمثّل حافزاً هائلاً وطاقة نفّاثة للكتابة. بلى، يستطيع الحبر تحريرنا من الأوجاع، وتخليصنا من براثن الألم، اذا اعتبرنا الكتابة نوعاً من افراغ الشحنات النفسية والشعورية والبوح بمكنونات النفس الانسانية، فإنها بلا شك تغدو مطهراً ومعبراً للخلاص، ولعل معظمنا قرأ أو سمع عن العلاج بالموسيقى والدراما والكتابة، وهي وسائل ناجعة آخذة في الشيوع والانتشار خصوصاً لجهة معالجة المشاكل والأوجاع النفسية والعصبية.
ننتمي الى جيل، بل الى أجيال نشأت على الإيمان بالوحي والإلهام الشعريين، وقديماً قالت العرب بوجود وادٍ في نواحي نجد يدعى وادي عبقر يسكنه شعراء الجنّ، وأن لكل شاعر من الأنس قريناً من الجنّ يلقّنه الشعر. الأكيد أن الفن في بعض وجوهه يصدر من اللاوعي، هذا ما يمكن أن نسميه الإلهام أو الوحي، لكن الأكيد أن الإبداع هو ابن التجربة الانسانية المعاشة، ولعل الإبداع الأدبي سواء كان نثراً أو شعراً هو من أكثر الإبداعات الانسانية التصاقاً بالذات وتعبيراً عنها وصدوراً منها، بالتالي لا يعود غريباً أن يكتب المرء انطلاقاً من تجاربه الشخصية أو من تلك التي كان شاهداً عليها، كلما اقترب الكاتب من ذاته بصدق وشفافية، كلما صار أكثر قرباً من المتلقي وأكثر عمقاً في التعبير عنه. الذات الانسانية السويّة واحدة مهما تعددت وتفرعت، ومهما تنوعت مصادر وعيها ومعرفتها، غالبية البشر تفرح للمواقف نفسها وتحزن الأسباب ذاتها، جميعنا يؤلمنا الفراق ويسعدنا اللقاء، نستقبل المولود الجديد بفرح غامر ونودع الأحبة الراحلين بالدمع والأسى. كُنْ أنتَ تكن جميع الناس.
لحظة الكتابة لحظة ذاتية جداً، بينك وبين الورقة بيضاء لا أحد سوى القلم، لكن ما أن يخرج النص من بين يديك صار ملكاً لقارئه، يراه من زاويته ويقرأه بعين نفسه وجدانه. أما لحظة الكتابة وولادة النص فهي ملكك لا شريك لك فيها. وعوداً على بدء فإن أسلافنا لم يتركوا شيئاً الا وقالوه وكتبوه: الولادة والموت وما بينهما. لذا لن نجد جديداً لنقوله، الجديد هو كيفية قولنا لتلك الأشياء على ضوء المستجدات والاكتشافات والمتغيرات التي تطرأ على الحياة. الإضافة الممكنة الى عمارة الأسلاف هي الطريقة التي نقول فيها ونكتب. قديماً قيل الرجل (وأُفضِّل الانسان) هو الأسلوب، نضيف: المبدع هو الأسلوب. أسلوبه الذي يميزه عن سواه فضلاً من الحياة وما يعتريها.
كُنْ أنتَ تكن جديداً، بمعنى آخر لا تقلد سواك ولا تكن نسخة منه وعنه. تعلّم من سواك لكن لا تقلده، بل ضع بصمتك، بصمتك هي الجديد.