أ.د. حسني نصر
أخيرا تحركت وسائل الإعلام الغربية في الاتجاه الصحيح، وبدأت في اتخاذ خطوات طالما نادينا بها لتقديم مقاربة جديدة للتعامل الجاد والفعال مع الإرهاب والإرهابيين، عبر تفكيك البنية الاساسية الإعلامية التي يستندون اليها للترويج لعملياتهم وتحقيق أهدافهم الدعائية واستقطاب إرهابيين جدد، عبر استغلال التغطية الإعلامية المكثفة لعملياتهم الإجرامية. أخيرا استجابت وسائل الإعلام الغربية وتحديدا الفرنسية منها لنتائج البحوث العلمية التي أكدت أن البعدين الإعلامي والرمزي من المعالم الرئيسية للعمل الإرهابي، وان الهجمات الإرهابية ما هي إلا نوعا من الاتصال السياسي الذي صمم لإحداث أكبر تأثير رمزي على الدول والشعوب المستهدفة به.
وسائل إعلام فرنسية تلفزيونية وإذاعية وصحفية وإليكترونية شهيرة قررت في مبادرة أعلنتها الأسبوع الفائت التوقف تماما عن نشر أسماء وصور الإرهابيين، حتى لا تشارك في تمرير الدعاية الخاصة بالتنظيمات الإرهابية، وحتى لا تسهم في جذب أنصار جدد لها من الشباب الفرنسي المسلم. محور المبادرة التي أعقبت حادث نورماندي الذي ذُبح فيه كاهن فرنسي متقاعد يبلغ من العمر 86 عاما في كنيسة كاثوليكية ببلدة سانت دي روفراري شمال فرنسا الثلاثاء الفائت على يد مراهقين فرنسيين من أصول عربية، زعم تنظيم داعش أنهما ينتميان اليه، يتمثل في التوقف التام عن نشر أسماء وصور منفذي العمليات الإرهابية وكذلك المشتبه بهم، باعتبار أن هذا النشر يوفر للإرهابيين المجد والشهرة التي يسعون إليها، ويصب في صالح الجماعات الإرهابية ويعزز آلياتها الدعائية ويفتح المجال أمام غاضبين جدد من الشباب للانضمام لها. وقد سبق أن اتخذت صحيفة "لوموند" الفرنسية ذائعة الصيت منفردة قرارا مماثلا في أعقاب حادث مدينة نيس الذي قتل فيه نحو 84 شخصا دهسا بشاحنة كان يقودها فرنسي من أصل تونسي في الرابع عشر من يوليو الفائت.
المبادرة الإعلامية الجديدة جاءت أيضا استجابة لمبادرة أطلقها أحد النشطاء، تمثلت في عريضة شعبية تم نشرها على موقع اليكتروني متخصص في تقديم المطالبات الشعبية لإحداث "التغيير"، استهدفت جمع توقيعات من المواطنين لمطالبة أوليفر تشاميك رئيس المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع في فرنسا، بمنع نشر أسماء وهويات وصور الإرهابيين، وتجهيل المتورطين في أعمال إرهابية في وسائل الإعلام الفرنسية، وتجاوب معها حتى الجمعة الفائتة أكثر من مائة وستين ألف شخص. ولعل هذا ما دفع وسائل إعلام فرنسية أخري شهيرة إلى الانضمام إلى المبادرة التي تستهدف عدم تحويل الإرهابيين إلى نجوم من خلال التغطية الإعلامية المكثفة، كتلك التي نالها الشاب ذي الأصول التونسية الذي كان يقود الشاحنة في حادثة نيس. وقد استندت العريضة الشعبية إلى حقيقة أن وسائل الإعلام الفرنسية عقب كل هجوم إرهابي تستمر لشهور في الحديث عن الإرهابيين الذين قاموا بالهجوم، وتحولهم إلى نجوم، من خلال النشر المكثف عن نشأتهم وحياتهم ومعتقداتهم ودوافعهم ومبرراتهم، وحتى نوع الطعام الذي كانوا يفضلونه.
من الطبيعي أن تحدث هذه المبادرة جدلا بين الإعلاميين بعضهم البعض من جانب، وبينهم وبين الرافضين لها سواء من اليمين المتطرف الذي يريد استمرار الربط بين الإرهاب وبين الدين الإسلامي، او من السلطات الأمنية المعنية بمكافحة الإرهاب التي تريد الإعلان عن مجهوداتها في تعقب المنفذين. فاذا كانت بعض وسائل الإعلام قد أعلنت التزامها بعدم نشر صور وأسماء الإرهابيين وعلي رأسها صحيفة لوموند وشبكة بي اف ام تي في التلفزيونية، وهي المحطة الإخبارية الأكثر مشاهدة في فرنسا، وراديو اوربا1، وبعض المواقع الإخبارية الكبيرة، حتى لا تتحول إلي معرض لصور الإرهابيين، وحتى لا تسهم في الدعاية للتنظيمات الإرهابية خاصة تنظيم داعش، فإن وسائل إعلام أخرى مثل صحيفة لاكروكس اختارت أن تقف في منتصف الطريق، وقررت نشر الأسماء الأولي فقط للإرهابيين والتوقف عن نشر الصور، فيما فضلت وسائل إعلام أخرى أن تستمر في النشر، خاصة اذا كان بطلب من السلطات الأمنية. في المقابل فان هناك دعوات إعلامية وسياسية مضادة تري ضرورة استمرار نشر صور وأسماء الإرهابيين. ويبني هؤلاء موقفهم استنادا إلى مرتكزات ثلاثة، الأول أن عدم النشر سوف يدفع الجمهور إلى البحث عن المعلومات والصور في وسائل إعلامية أخرى، او من خلال مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وبالتالي فانه يفتح الباب لوصول الجمهور إلى مواقع التنظيمات الإرهابية، وربما تأثر البعض بما تنشره. والثاني أن التوقف عن نشر صور وأسماء الإرهابيين قد يعيق جهود الأجهزة المعنية بتتبع الإرهابيين وشبكاتهم، خاصة وان النشر الإعلامي الموسع في حوادث إرهابية عديدة ساعد هذه الأجهزة في تفكيك شبكات إرهابية عديدة قبل القيام بعملياتها، كما يتناقض مع الإجراءات الأوروبية الموحّدة التي تلزم الحكومات وأجهزة الأمن والقضاء بالكشف عن أسماء وصور من ينفذون عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية فور التأكد من هويتهم. أما الاعتبار الثالث الذي يستند اليه المطالبون باستمرار النشر فيتصل بمخاوف يعبر عنها اليمين الأوروبي المتطرف الذي يرى أن قرار وسائل الإعلام الأوروبية والفرنسية منها على وجه التحديد بعدم نشر صور الإرهابيين وأسمائهم يمثل مؤامرة او على الأقل محاولة لتبرئة جماعات معينة مثل المهاجرين، وأديان محددة مثل الدين الإسلامي من تهمة الإرهاب، ويوقف الربط الآلي الذي ترسخ في أذهان الأوروبيين بينه وبين الهجمات الإرهابية.
في تقديري انه أيا كانت التبريرات التي يسوقها أنصار نشر صور وأسماء الإرهابيين، فان الأمر المؤكد أن عدم النشر هو القرار الأفضل، إذا كانت وسائل الإعلام الأوروبية تريد بالفعل المشاركة الجادة في مكافحة الإرهاب وحصاره وتجفيف منابعه. ونتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه عدم النشر هذا تقليدا دوليا تشارك فيه كل وسائل الإعلام في العالم، حتى لا نمنح هؤلاء القتلة ما يريدون من شهرة وترويج ودعاية لأفكارهم المغلوطة وتصرفاتهم الهمجية.
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس