تغييرُ المصطلحات= تزييفُ الوَعِيّ

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٧/أغسطس/٢٠١٦ ٠٠:٤٠ ص
تغييرُ المصطلحات= تزييفُ الوَعِيّ

زاهي وهبي
من يَعِش في أميركا أو أوروبا ويتابع ما تبثُّه وسائل الاعلام من أخبار عن الحروب والأزمات الضاربة في بلادنا العربية يلاحظ الانتقائية الموجَّهة والموجِّهة التي تعتمدها تلك الوسائل الإعلامية ممارِسةً نوعاً من التضليل والخداع وتزييف الأمور وتغيير الوقائع بأساليب شديدة الذكاء وشديدة الخبث في آن.
لئن كانت فلسطين هي المثال الأبرز على ما نشير اليه حيث منذ عقود طويلة تُطمَس العدوانية الإسرائيلية ويتم التغاضي عن الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، فإن هذا الأمر يتكرر في ما يتعلق بكل بلد عربي. مثل هذا التعامل الإعلامي مع قضايانا وشؤوننا ليس مسألة عابرة أو هامشية، ولا هو نتيجة جهل أو تجاهل، بل حصيلة سياسات عليا لا ترى الى بلادنا الا بوصفها آبار نفط أو جغرافيا سياسية لا قيمة أو أهمية لإنسانها في نظر راسمي السياسات العالمية المؤتمنين على مصالح القوى العظمى التي لا تقيم وزناً للشعوب المسحوقة والمغلوبة. الجميع يذكر كيف وقف وزير خارجية أميركا الأسبق كولن باول في قاعة مجلس الأمن الدولي وعلى مرأى من شعوب الأرض قاطبةً يشرح بالصور والخرائط الأماكن التي تحوي أسلحة الدمار الشامل في العراق تبريراً لغزوه ليتبين فيما بعد أنها أكبر كذبة سياسي في التاريخ المعاصر، ولا ضرورة لشرح ما حلَّ بالعراق ولا يزال بفعل الغزو الأميركي.
لا يمكننا البتة فصل ما يحدث اليوم عما حدث بالأمس، لن ينسى حكّام الغرب (حين نستخدم مفردة الغرب بمفهومه الاستعماري القديم/الجديد المباشر وغير المباشر) وراسمو السياسات فيه أن العرب والمسلمين استطاعوا يوماً الوقوف على أسوارهم وتهديد مصالحهم، لذا ما أن سنحت لهم الفرصة حتى غزوا بلادنا وقسَّموها وشرّذموها ولا يزالون. فما نتعرض له إعلامياً وثقافياً لا يمكن فصله أبداً عن السياسة والاقتصاد، منذ عقود والسينما الهوليودية لا تُقدِّم العربي الا بوصفه ماجناً أو ارهابياً، والنموذج الأخير تقدَّم في السنوات الأخيرة على ما عداه، ليس فقط في الأفلام السينمائية بل في كل ما يخاطب الرأي العام ويساهم في تشكيل وعيه وتكوين وجهة نظره حيال الآخر وما يحدث في العالم، فالإسلامفوبيا ليست وليدة الساعة بل نتاج تراكم مزمِّن، لكنها ترسخت وتعاظمت الآن بفعل ارهاب قوى التخلف والتطرف التي تكوَّنت وولدت وترعرعت في رحم "الغرب" نفسه الذي "يشكو" منها، لِيأتي لاحقاً على طريقة "رامبو" مُنقِذاً ومخلِّصاً لا يُشَقُّ له غبار.
صحيح لا يخلو الأمر من أصوات مُنصِفَة ومن أصحاب ضمائر حية ممن تسنى لهم معرفة حقيقة ما يدور في أوطاننا، لكن هؤلاء لا يزالون قلَّة قليلة غير قادرة على احداث فارق كبير لدى الرأي العام، خصوصاً وأن ما تتعرض له الثقافة العربية من طمس واقصاء لم تتعرض له ثقافة أخرى على الإطلاق، اللهم الا ثقافة الهنود الحمر في أميركا. لا يتم تقديم العربي الا بوصفه بدوياً تائهاً في صحراء أو مخموراً في كاباريه وأحضان بنات الهوى. تُنسى كل إنجازات العرب العلمية والمعرفية، تتم مصادرة العقول والأدمغة العربية وتجنسيها و"تغريبها" ومَن لا يرضى مصيره الاهمال ان لم يكن القتل والاغتيال كما حدث لعدد كبير من علماء العراق، وفي الوقت لا يستطيع كاتب عربي الوصول الى العالمية وترجمة مؤلفاته الا متى قدم التنازلات وتخلى عن الالتزام بقضايا العرب المُحِقَّة والعادلة، لا ينال المبدع العربي جائزةً كبرى الا اذا كان يغرد خارج سرب الالتزام المذكور، لا تصل أغنية عربية واحدة الى سباق الأغاني العالمية، لا يستطيع ممثل عربي فتح أبواب هوليوود الا وِفقَ شروط وتنازلات معينة، حتى اللغة العربية نفسها تتعرض للإهمال والتشويه على أيدي بعض الإرساليات والمدارس الخاصة ووسائل الاعلام، وتبدو مرذولة من قبل بعض أبنائها المُستلبين للغرب/المسيطر. هل هذا كله مِن قبيل المُصادفة؟ طبعاً لا. مثلما هناك سياسات اقتصادية وعسكرية هناك أيضاً سياسات ثقافية واعلامية، ألا يلاحظ القارىء الكريم المتابع للمشهد الثقافي في بلادنا كيف أن المؤسسات الغربية المانحة وتلك المهتمة بالانتاج الأدبي والفني العربي لا تدعم ولا تموِّل سوى إنتاجات ذات توجه يُضمِر رؤية استشراقية لمجتمعاتنا لا تلحظ فيها سوى "الحرملك" وما يتفرع منه، وذلك على حساب قضايا أكثر الحاحاً ومصيرية، بل انها تشترط لتمويل أي انتاج عدم اقترابه أو تناوله لتلك القضايا الأكثر الحاحاً من قضايا الجنس والحجاب وسواها، هي قضايا جديرة بالنقاش لكنها ليست شغلنا الشاغل، ثمة قضايا متعلقة بحاضرنا ومستقبلنا ممنوع علينا طرحها أو نقاشها، وإذا فعلنا نصبح "خشبيين" في نظر الغرب "المتمدن" ونشطائه المحليين المنتشرين بيننا كالفطر السام.
نعرف، ليس أصل الصورة أفضل حالاً بكثير من الصورة التي يساهم الاعلام الغربي في تعميمها، ولا ننفي مسؤوليتنا الكبرى عمّا نحن فيه وهو ما تطرقنا اليه في عشرات المقالات، لكن الفارق جوهري بين تسليط الضوء على واقع معين بهدف تغييره، وتسليط الضوء عليه بهدف ترسيخه وتكريسه، والأمر الأخير هو ما تمارسه غالبية الدوائر الإعلامية والثقافية الغربية (حين نقول الغرب أو الغربية فإننا نقصد القوى الاستعمارية القديمة/الجديدة، المباشرة وغير المباشرة)، ولعل أخطر ما فعلته تلك الدوائر هو مساهمتها في تغيير المفاهيم والمصطلحات، ولا يَظننَّ أحد أن الأمر عَرَضِيٌّ وعابرٌ، تغيير المفاهيم والمصطلحات جعل الثائر ارهابياً والإرهابي ثائراً، المحتل محرراً والمحرر مجرماً، وبرأ قوى الظلم والعدوان من جرائمها المرتكَبة جيلاً بعد جيل، وعِوَض مطالبتها بالاعتذار عن جرائمها والكفِّ عن مشاريعها الاستعمارية المرتدية أقنعةً شتى أعطاها مُسمَّى "أصدقاء" فأصبحنا نشاهد القوى التي ساهمت في ضياع فلسطين وتدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان والسودان والصومال تجتمع كل فترة تحت ذاك المُسمَّى المُضحِك المبكي لترمي فتات مساعداتها للشعوب التي تسببت هي نفسها بكوارثها ومآسيها وفي تسلط أنظمتها عليها وجعلها (الأنظمة) حصان طروادة، تأتي بحجة اسقاطها لنهب ما تبقى من ثروات وخيرات وتبديد أحلام شعوبها المشروعة بالتنمية والعدالة والحريّة.
ما يَسنُّهُ صُنَّاع الاعلام الغربي من "قوانين" ومصطلحات يسارع معظم الاعلام العربي الى تلقفه وتبنيه وترويجه، فلا يعود الفلسطيني الذي يسقط برصاص جيش الاحتلال الاسرائيلي شهيداً بل مجرد قتيل كأي قتيل آخر يسقط ضحية حادث عَرَضِيٍّ، ولا الاعتداءات الإسرائيلية اعتداءً وارهاباً بل عمليات عسكرية كأي عملية تجري مثلاً في صحراء خالية من الناس لا تطاول مدناً وبلدات مكتظة بالمدنيين، ويصير شذَّاذ الآفاق القادمين من أصقاع الأرض محاربين لأجل الحرية والديمقراطية وأبناء الأرض الفعليين ارهابيين وقتلة...وَقِسْ على هذا المنوال.
ثمة تبديل للمفاهيم والمصطلحات هدفه قلب الوقائع وتزييف الوعي الإنساني البديهي الوطني والقومي واستبداله بِ"وَعيٍّ" آخر مضاد، "وَعِيٍّ" مناطقي وجهوي وقبلي بحسب تركيبة كل بلد عربي لِكَي يسهل تفتيت بلادنا أكثر وجعلها دويلات متناحرة الى أبد الآبدين ودهر الداهرين... كرمى عيون دولة الارهاب الأولى: اسرائيل.
ما الذي يستطيعه المثقف العربي وسط هذا المعمعة والمعمعان؟ للحديث دائماً صِلة.