عندما تطرقنا في مقالات سابقة إلى رفع الدعم عن المشتقات النفطية كالبنزين منذ عدة أشهر بهدف إيجاد بدائل للإيرادات غير النفطية للميزانية العامة للدولة، قامت الدنيا ولم تقعد للأسف! بسبب سوء فهم لمقاصد المقالات وكاتبها واتهامه بأشد النعوت التي لا ينبغي أن نصف بها أي فرد، لما تشكله من عدم الحضارية في النقد الذي يجب أن يتمتع به المجتمع، وعدم الغوص في دواخل البشر ومنطلقاتهم، وكنا نهدف من بين ما نهدف إلى المصلحة العامة للشعب في المقام الأول والدولة والحكومة ثانيا، على اعتبار أن أي التزام سواء كان عاجلا أم آجلا سوف يكون على الدولة والشعب، والحكومات ماهي إلا إدارة لمقدرات الشعوب، فلا نريد لبلادنا أن يكون عليها دين، ولا نرغب في أن نصرف كما يحلو لنا، ونرفض تسعيرة الخدمات بقيمتها الحقيقية، متناسين أن قيمة الفاتورة تتراكم علينا سواء اليوم أو غدا...
فالحكومة أعلنت الأسبوع الماضي عن إعادة تسعيرة المشتقات النفطية بالأسعار في الأسواق العالمية، وفرضت بعض الرسوم على الشركات وغيرها من الإجراءات المتوقعة أن تكون جزءا من الخطوات التي هي في العادة تتخذها الدول في مثل هذه الأزمات لتصحيح مسار الإنفاق وترشيد الاستهلاك للحفاظ على المالية العامة للدولة وتلافي تنامي العجوزات في الميزانيات وانعكاساتها.
لعل قرار بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إعلان إجراءات صارمة لرفع الدعم وفرض الضرائب كفيل بتبرير ما تتخذه الحكومة من إجراءات هدفها سامٍ وهو الحفاظ على المكانة المالية للدولة و أن السلطنة ليست وحدها من اتخذ الإجراءات و إنما كل الدول الخليجية، رغم الفوارق في الإمكانيات و الالتزامات، ونحن جميعا حريصون على سلامة مكانة الدولة التي لا ينبغي أن تهتز في العالم.
فإمكانيات بعض دول المجلس كبيرة ولديها صناديق سيادية ضخمة يمكن أن تسد أي عجز لسنوات طويلة ولديها قاعدة لتنويع مصادر الدخل بنيت للعديد من الاعتبارات لم يتسنّ لنا بعدُ بناءها لدواعي التنمية والالتزامات بالبنية الأساسية في البلاد وعوامل اجتماعية معيقة للانفتاح الكامل فضلا عن أن تطوّر المجتمع يحتاج لبعض الوقت ليتفاعل مع المتغيرات الدولية بالإيجابية وأمور أخرى.
إلا أن ما يثلج الصدر أننا نرى التفاعل الواسع لما يصدر ومناقشته بالسلب والإيجاب في مواقع التواصل الاجتماعي بكافة وسائلها يعبّر عن حيوية المجتمع وحرية الرأي والتعبير المتاحة التي تأخذ مساحة واسعة، إلا أنه في المقابل ممّا يحز في النفس أن نسمع ونقرأ ونشاهد السوداوية التي يظهرها البعض فينسف كل ما تحقق ويُظلم الطريق إلى المستقبل لمجرد رفع الدعم عن المشتقات النفطية وما يمكن أن يساهم به الفرد إلى جانب جهود الحكومة لتجاوز هذه الأزمة، فهذه الأصوات غير الواعية لما هي فيه وما لدى الآخرين وكيفية التعاطي مع الواقع بالإيجابية التي تظهر قدرة الفرد على التكيف مع المستجدات، تعكس العديد من الأمور التي يجب إعادة النظر فيها ومنها التوعية بمقدرات الدول وحقوق وواجبات الأفراد، فبناء الفرد الواعي هو الأهم في تجاوز أي أزمات ، لا لإظهار الانهزامية والبكاء على اللبن المسكوب.
فلو تعمقنا في رفع الدعم عن المشتقات النفطية كالوقود، فإن المؤشرات والبيانات التي صدرت في الأيام الماضية، أشارت إلى أن نسبة الزيادة لن تتجاوز 40 بيسة في اللتر كحد أعلى، فهل يستدعي كل هذه الضجة في مواقع التواصل الاجتماعي وتحوير الأمور إلى غير موضعها وكيْل الاتهامات، ويمكننا أن نعيد ترشيد استهلاكنا لكي نصرف أقل مما كنا نصرفه قبل رفع الدعم .فالموضوع لا يستحق أن نتمادى في مناقشته إلى هذا الحد، بل يمكن أن يسهم في تقويم سلوكياتنا غير الرشيدة ونعي فيها القيمة الحقيقية لأسعار الوقود وغيرها من الخدمات المدعومة، فسعر لتر الوقود في الدول الأوروبية عشرة أضعاف قيمته.
إن العجز في الميزانية العامة للدولة في العام 2015، وصل إلى أربعة مليارات ريال، في حين كان مقدار العجز مليارين ونصف المليار، وهناك فارق كبير بين المقدر والعجز الواقعي الذي سوف يسدد بعدة طرق إما بالسحب من الاحتياطي أو القروض الداخلية عن طريق سندات التنمية أو صكوك أو الاستدانة من الخارج، وكلها أعباء وديون من الطبيعي أن ترهق الدولة في السنوات القادمة.
هناك تجارب في دول العالم تبين كيف أرهقت الديون الشعوب والدول وخير مثال على ذلك اليونان وما شكلته الديون من أعباء جعلتها فريسة للآخرين تتشمت بها، ودول أخرى تتصدق عليها، وهناك دول عربية يعرفها الجميع تئن تحت وطأة الديون وتعاني أشد المعاناة ولا نرغب أن نقع في فلك الديون بعدم ترشيد الاستهلاك وتقدير الخدمات وقيمتها.
الجانب الآخر الذي يجب أن يعيه المجتمع هو أن دور الإعلامي ومسؤوليته يكمن في استشعار الخطر على الدولة والمجتمع وينبّه الجهات إليه، وهذا ما قمنا به ليس أكثر، فلسنا كما يرى البعض لسان حال أي جهة، ولن نكون، لأن الإعلام رسالة قبل أن يكون مهنة ووظيفة، والإعلام مسؤولية ضمير قبل أن يكون عملا.
بالطبع نحن على يقين أن هناك تأثيرات طفيفة على الأسعار المرتبطة بأسعار الوقود ، إلا أن الأهم هو النظر في كيفية التكيف معها من خلال ترشيد الاستهلاك وإيجاد بدائل عنها.
نأمل أن نعي أن هدفنا واحد وهو عدم إرهاق ميزانية الدولة بعجوزات سنوية كبيرة، تحوّل إلى ديون تتراكم بمرور الوقت وتكون عبئا علينا وعلى الأجيال القادمة وتوصم بلادنا بأنها من الدول التي عليها ديون.