تركيا وبيوت الزجاج العربية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠١/أغسطس/٢٠١٦ ٠١:٠٧ ص
تركيا وبيوت الزجاج العربية

أ.د. حسني نصر

أثارت القرارات التي اتخذتها الحكومة التركية الأربعاء الفائت بإغلاق نحو مائة وثلاثين وسيلة إعلام ردود فعل دولية كثيرة وغاضبة، رغم أنها تأتي في إطار حملة التطهير الواسعة والمفهومة التي لا تقتصر على الإعلام وشملت مؤسستي الجيش والقضاء، والمؤسسات التعليمية وغيرها من مؤسسات الدولة، والتي تشنها الحكومة في إطار حالة الطوارئ المعلنة في البلاد لمدة ثلاثة أشهر في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في منتصف الشهر الفائت، وكادت تعصف بالنظام الديمقراطي كله وتعيد تركيا عشرات السنوات إلى الوراء.
قرارات الحكومة التركية شملت إغلاق 18 محطة تلفزيونية و3 وكالات أنباء و23 محطة إذاعية، و45 صحيفة، و15 مجلة، بالإضافة إلى 29 دار نشر، وهو عدد كبير ومقلق بالفعل، خاصة إذا أضفنا إليه عمليات الاعتقال التي طالت نحو 89 صحفيا. ولعل هذا ما دفع دول مختلفة من الغرب والشرق، حتى تلك التي لا تعرف من حرية التعبير سوى أنها نص معطل في الدستور، وتعصف بحرية الرأي والصحافة وتقتل وتعتقل عشرات من الصحفيين بمناسبة وبدون مناسبة دون أن يسألها أحد، إلى التنديد بالإجراءات التركية والإعراب عن القلق على حرية الإعلام التركي، وهو في حقيقته قلق مشابه لقلق السيد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة الذي أصبح لا يقدم ولا يؤخر.
ردود الفعل الامريكية والغربية عموما تبدو مفهومة، باعتبارها صادرة عن دول ديمقراطية يرتفع فيها مستوى حرية الصحافة، ومع ذلك فان هذه الانتقادات بدت متعقلة ولم تتجاوز حد تفهم حاجة تركيا إلى محاسبة مدبري محاولة الانقلاب الفاشلة، والإعراب عن القلق من اعتقال المزيد من الصحفيين، وضرورة إجراء محاكمات عادلة للصحفيين الموقوفين. الذي لم يكن مفهوما هو تلك الانتقادات التي خرجت من عدد من العواصم العربية التي لم يعهد عنها الاهتمام بحرية الرأي والتعبير أو الدفاع عنها. إذ تسابقت وسائل إعلامها المحسوبة على الحكومات إلى التباكي على حرية الإعلام التركي التي عصف بها نظام اردوغان، رغم أن لهذه الدول تاريخ غير جيد في التعامل مع الإعلام والإعلاميين. من المهم أن يعلم هؤلاء المتباكين على حرية الإعلام في تركيا أن من كان بيته من زجاج لا يجب أن يقذف الآخرين بالحجارة، وأن القوانين لديها كما في غالبية دول العالم تجيز في حالة الطوارئ أو زمن الحرب فرض رقابة محددة على الصحف في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي، كما تجيز للحاكم أو من ينوب عنه الأمر بمراقبة الرسائل والصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات وكافة وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها. وتبدو حالة الطوارئ التي وافق عليها البرلمان التركي أقل وطأة من مثيلاتها المفروضة في بعض الدول العربية لفترات طويلة، إذ أنها لمدة ثلاثة أشهر فقط، وجاءت كما قال البيان الصادر عن مجلس الوزراء من اجل حماية وتعزيز الديمقراطية والقانون والحريات، ولن تكون كما أكد الرئيس اردوغان ضد الديمقراطية أو تقييد الحقوق الأساسية والحريات للمواطنين.
من المؤكد أننا مع حرية الصحافة والإعلام، ونعارض أية إجراءات حكومية تقيد هذه الحرية أو تحد منها، بل وندعو دائما إلى منح وسائل الإعلام مزيدا من الحريات حتى تستطيع أن تقوم بدورها في الإعلام والتثقيف والترفيه والرقابة على سلطات الدولة المختلفة. وكثيرا ما قلنا في هذا المكان وغيره أن النفع الذي يعود على الدول من حرية الصحافة كبير جدا ولا يمكن مقارنته ببعض الأضرار الجانبية التي تسببها هذه الحرية في حالات الخروج الحادة عن المهنية والموضوعية. في المقابل فإن من الضروري أن نؤكد أن حرية الإعلام يجب أن تدور في فلك الحرية المسؤولة التي تحافظ على كيان الدول ولا تهدد الأمن القومي. وهل هناك تهديد أكبر للأمن القومي من انقلاب عسكري بدأ بإطلاق الرصاص من المروحيات على المواطنين في الشوارع واقتحام المؤسسات الإعلامية واحتلالها؟ وقد شاهدنا أمثلة كثيرة لحالات إعلامية عربية عديدة تركت فيها وسائل الإعلام دون حساب أو مساءلة، ونتج عن ذلك فوضى إعلامية أشعلت نزاعات سياسية وعرقية وطائفية تحولت إلى حروب أهلية دامية عصفت بدول وأدخلتها في عداد الدول الفاشلة.
على جانب أخر فإن إجراءات التطهير التي تقوم بها الحكومة التركية المنتخبة والتي طالت وسائل الإعلام يمكن تحملها بشكل وقتي طالما تمت في إطار القانون وخضعت لأحكامه، وهو ما أكدت عليه الحكومة في ردها على المطالبات الأوربية والأمريكية. وفي تقديري أنها إجراءات مؤقتة سوف تنتهي في غضون فترة الطوارئ المعلنة، بعد أن تطمئن الحكومة إلى زوال خطر الانقلاب تمامًا. الأمر الحاسم هنا يتعلق بمدي الرضا الشعبي عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية، فالشعب الذي خرج بالملايين ليقاوم الانقلاب العسكري هو الوحيد الذي يملك حق الوقوف في وجه اردوغان و اذا شعر أنه استغل الانقلاب الفاشل للانتقام من معارضيه وتصفية حساباته مع وسائل الإعلام التي اغلقها، وفي هذه الحالة لن يستطيع أحد أن يقف في وجه هذا الشعب إذا تظاهر ضد اردوغان وحكومته. ولما كان هذا لم يحدث حتى الآن رغم الأعداد الكبيرة من الموقوفين والمعزولين من وظائفهم، فإننا يمكن أن نزعم إن هناك رضا شعبي عما يقوم به الرئيس التركي بحق المتورطين والمشتبه في تورطهم في محاولة الانقلاب. ومن هنا فإن علينا ألا نبالغ كثيرا في تقدير خطر إغلاق وسائل إعلام تركية على حرية التعبير والصحافة، وأن نضع في اعتبارنا دائما ما كان يمكن أن يقوم به الانقلابيون من إجراءات أشد قسوة ضد الإعلام في حال نجاحهم.
من المؤكد أن الرئيس اردوغان وحكومته وحزبه يعلمون أن الديمقراطية تعني أن اليوم قد يكون لك لأنك في الحكم، وغدا قد يكون عليك بعد أن تفقد السلطة، وبالتالي فان العصف بحرية الإعلام دون حق لن يكون في صالحه في النهاية.

اكاديمي في جامعة السلطان قابوس