التغريبة التركية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠١/أغسطس/٢٠١٦ ٠١:٠٦ ص
التغريبة التركية

شلومو أفينيري

تثير تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا سؤالا جوهريا: هل يواصل الرئيس رجب طيب أردوغان ملاحقة مساره الفاشستي السلطوي، وربما بنزعة انتقامية، أو يمد يده لخصومه ومعارضيه ويحاول رأب الصدوع العميقة في المجتمع التركي؟
لا تزال المداولات جارية وكل الاحتمالات قائمة، ولكن انطلاقا من التجارب التاريخية السابقة، تُفضي التهديدات الخطيرة التي يتعرض لها القادة السلطويون أو شبه السلطويين عادة إلى اشتداد قسوة النظام وليس توجهه نحو المزيد من الاعتدال. ويبدو أن تحركات أردوغان منذ انهيار الانقلاب تؤكد السيناريو الأكثر تشاؤما ــ أعلنت السلطات على الفور تقريبا عن اعتقالات جماعية وتطهير الآلاف من العسكريين والقضاة ورجال الشرطة والمعلمين.
ولكن من الخطأ رغم ذلك أن ننظر إلى ما يجري في تركيا الآن على وجه القصر من منظور شخصية أردوغان وميوله الاستبدادية. يمثل أردوغان هو وحزبه العدالة والتنمية تحولا هائلا في السياسة التركية، وهو تحول مشابه لما يجري في دول أخرى ذات أغلبية مسلمة في الشرق الأوسط.
في محاولة تحريك مسار التاريخ التركي بعيدا عن العلمانية الراديكالية لمؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك، بدا حزب العدالة والتنمية في مستهل الأمر وكأنه ينحرف بعيدا عن القالب السلطوي الكمالي. ولأن المراقبين الغربيين كانوا مؤيدين للطبيعة العلمانية للكمالية، فقد تغافل كثيرون عن حقيقة مفادها أن النظام كان أقرب إلى الفاشية الأوروبية في ثلاثينيات القرن العشرين ــ الدولة القومية ذات الحزب الواحد، مع تربع أتاتورك ذاته على قمة عبادة الشخصية ــ وليس الديمقراطية الليبرالية. وفي خمسينيات القرن العشرين فقط بدأ النظام يتحول ببطء نحو المزيد من التحرر.
لم تكن العلمانية الكمالية تعبيرا عن حركة شعبية عريضة؛ بل كانت مفروضة من قِبَل نخبة حضرية صغيرة ــ عسكرية وفكرية ــ على مجتمع تقليدي وريفي في الأغلب. لم تكتف الكمالية بفرض شكل من أشكال الأبجدية اللاتينية، التي قطعت بشكل كامل أي صِلة بين الأتراك وتاريخهم وثقافتهم؛ بل حظرت الأشكال التقليدية من الملابس ــ الطربوش، والسراويل الفضفاضة للرجال وغطاء الشعر (الحجاب) للنساء ــ وفرضت زيا أوروبيا على سكان البلاد بالكامل. وكان لزاما عليهم تغيير كل الأسماء والألقاب التي لها وقع عربي أو إسلامي إلى أخرى تركية.
لم يشهد أي مجتمع أوروبي مثل هذه الثورة الثقافية الموجعة التي تُفرَض من أعلى إلى أسفل. ففي الغرب سارت العولمة جنبا إلى جنب مع مشروع التنوير الذي قام على التحول الديمقراطي والتحرر الليبرالي. وفي تركيا ــ وبشكل أقل راديكالية في ظل حكم الشاه في إيران والدكتاتوريات العسكرية في بلدان مثل مِصر وتونس وسوريا والعراق ــ لم تُتَح للأتراك فرصة الاختيار قط.
كانت الانتصارات الانتخابية التي حققها حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002 (فضلا عن التطورات المماثلة في دول إسلامية أخرى) على نحو ما بمثابة عودة المكبوتين. ولأن النظام الكمالي تحرر في نهاية المطاف سياسيا (وإن لم يكن ثقافيا)، فإن ظهور نظام التعددية الحزبية في نهاية المطاف عمل أيضا على تمكين المحافظين التقليديين الذين حُرِموا لفترة طويلة من الاختيار.
من ناحية أخرى، جلب التحديث الاقتصادي الحراك الاجتماعي للمحافظين، والذي أدى إلى نشوء طبقة برجوازية جديدة متمسكة بالقيم الدينية التقليدية وتنظر إلى النخبة الكمالية ــ المستقرة بأمان في الجيش، والجهاز البيروقراطي، والقضاء، والجامعات ــ باعتبارها قمعية ظالمة. وشكل هؤلاء الناخبون أساس انتصارات حزب العدالة والتنمية الانتخابية وشرعيته الديمقراطية. وتؤكد المحاولة الأخيرة من قِبَل عناصر من الجيش ــ درع العلمانية الكمالية ــ لقلب إرادة الشعب (كما فعل ثلاث مرات في نصف القرن الفائت) على استمرار الصِدام بين العلمانية والديمقراطية في تركيا.
في الوقت نفسه، كانت سياسة أردوغان الخارجية في السنوات الأخيرة غير ناجحة على الإطلاق. وقد أدى التزامه الأولي بسياسة "تصِفير النزاعات مع الجيران" بدلا من ذلك إلى تدهور العلاقات مع أرمينيا، وروسيا، وإسرائيل، ومِصر ــ ناهيك عن ردة الفعل السلبية الكبيرة في الداخل، بما في ذلك موجة من الهجمات الإرهابية، نتيجة للتورط في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا.
لم يُسفِر أي من هذا عن تآكل دعم أردوغان في الداخل، في حين وجد قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنفسهم يدعمونه، وإن كان ذلك على مضض، في مواجهة المحاولة الانقلابية الأخيرة. ويشهد هذا على مصلحة الغرب الجوهرية في استقرار تركيا، التي يحتاج إليها الاتحاد الأوروبي لمنع المزيد من موجات الهجرة من سوريا في الأساس، والتي تحتاج إليها الولايات المتحدة في حربها، المحدودة، ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ومن المشكوك فيه أن تمنع ملاحقة أردوغان للأعداء في الداخل ــ الحقيقيين والمتوهمين ــ الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي من مغازلة تركيا للفوز بتعاونها.
بيد أن استجابة أردوغان الوحشية لمحاولة الانقلاب ــ والتي ربما تشمل محاكمات صورية، بالإضافة إلى عملية "تطهير" المؤسسات العامة من كل بقايا المؤسسة العلمانية وحلفائه السابقين في حركة كولن ــ لن تفضي إلا إلى تعميق الانشقاقات والانقسامات داخل المجتمع التركي. والواقع أن الهجمات الإرهابية لم تشن من قِبَل تنظيم داعش فحسب، بل وأيضا المسلحين الأكراد، الذين تتحدى مطالباتهم بالحكم الذاتي مفهوم الأمة التركية التي لا تتجزأ ــ حجر الزاوية في الدولة الكمالية.
قبل المحاولة الانقلابية، قام أردوغان بخطوات كبرى لتخفيف التوتر مع روسيا وإسرائيل، ولا يبدو أن هذه المحاولات قد تخرج عن مسارها بسبب حملته الصارمة بعد الانقلاب. ولكن من ناحية أخرى، لا يبدو أن الحرب الأهلية في سوريا تتجه نحو الخمود، وسوف يستمر انهيار سوريا بحكم الأمر الواقع كدولة متماسكة في تحدي سياسة تركيا وتماسكها الاجتماعي، مع محاولة المزيد والمزيد من اللاجئين عبور الحدود إلى تركيا.
في نهاية المطاف، أثبتت العلمانية الكمالية القائمة على الجيش عدم قابليتها للاستدامة: ويحظى هدمها بيد حزب العدالة والتنمية بدعم واسع النطاق. ولكن الانقلاب الفاشل من المرجح أن يعزز الجوانب غير الليبرالية في الديمقراطية والتي نشأت في عهد أردوغان، حيث تتعارض إرادة الشعب وحكم الأغلبية مع التعددية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير. ويبقى لنا أن نرى ما إذا كان مثل هذا النظام قادرا على الحفاظ على استقراره في تركيا ــ حيث العداء لأردوغان قوي برغم المعارضة الشعبية للانقلاب.

مدرس في الجامعة العبرية في القدس، والمدير العام الأسبق لوزارة الشؤون الخارجية في إسرائيل.