أبداً ليست خشبية!

مزاج الأحد ٣١/يوليو/٢٠١٦ ٠٨:٢٣ ص

نكتب دائماً عن مسؤوليتنا عما آلت إليه أوضاعنا، وضمير الجماعة هنا عائد إلى السلطات المتعاقبة منذ نهاية حقبة الاستعمار المباشر حتى يومنا هذا، وكذلك القوى السياسية المختلفة موالاةً ومعارضةً وكلَّ مَن تولى شأناً عاماً، تلك المسؤولية تطاول الجميع ولا تستثني يميناً أو يساراً، تيارات إسلامية أو علمانية. الجميع مسؤول عما نحن فيه، أما لكونه حَكَمَ وفشل في تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية، أو لكونه لم يقدِّم بديلاً صالحاً يقنع الناس بتبنيه وبالتحلق حوله ودعمه ومؤازرته وظلت معارضته على مبدأ: قُمْ لأقعدَ مكانك. صحيح لا يقع الوزر ذاته بالتساوي على الكل فمن حَكَم ليس كمن ظلّ خارج الحكم، لكن لا يمكن إعفاء أحد من الواقع المزري الذي نعيشه.

كل ما تقدَّم لا يعفي القوى الخارجية من المسؤولية. فالاستعمار الذي خرج من بلادنا مرغماً استطاع فرض واقع جيوسياسي جعله قادراً على التحكم بالمنطقة والاستفادة من ثرواتها وخيراتها وموقعها الهام في قلب العالم. لم تكن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بلادنا بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الدولة العثمانية مجرد خرائط للمنطقة بل كانت مشروعاً جهنمياً بعيد المدى لأنها سمحت لقوى الاستعمار بالخروج الشكلي من المنطقة، فيما ظلَّت مفاتيح تقدمها (المنطقة) بيد تلك القوى، والمفارقة المؤلمة أن ثروات بلادنا العربية من نفط وغاز ومعادن مختلفة وموقع استراتيجي ساهمت في نهضة الدول الأجنبية فيما لم تستفد منها شعوبها صاحبة الحق بها، والدليل واقع الحال الذي يفيد بأن لا تنمية حقيقية ومستدامة في الدول العربية كافة حيث معظمها رازح تحت وطأة أزمات قاتلة وحروب مدمرة يذكي نارها الاستعمار الجديد/‏القديم ويحول دون نهضة شعوبنا من تحت رماد حرائقها وركام خرائبها.لا يظنن أحد أن الماضي يمضي نهائياً، كل ما يجري في الأمس له علاقة مباشرة بما يحدث اليوم، فالقوى الاستعمارية لم تنسَ لحظة أن العرب والمسلمين كانوا حتى الأمس القريب على تخوم أوروبا ووصلوا حدود الصين، ولو تسنى لهم أن يكونوا موحدين من المحيط إلى الخليج لشكّلوا قوةً عالمية سياسية واقتصادية لا يُستهان بها، ولا نتحدث عنها عن وحدة اندماجية تلغي الخصوصيات لكل قطر عربي، بل عن وحدة مصالح وتطلعات، وحدة لغة وتاريخ وجغرافيا مشتركة، وحدة شبيهة بالاتحاد الأوروبي أو سواها من التكتلات القارية أو الاقتصادية، لكن القوى المستعمِرة أدركت هذا الأمر مبكراً فخدعت من خدعت بوعود كاذبة، وصَدَقَتْ بوعد بلفور الذي لم تكن غايته الفعلية فقط إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، بل فصل المشرق العربي عن مغربه، وعزل مصر عن بلاد الشام، وهذا ما حصل للأسف حيث لا تزال إسرائيل شوكة في خاصرة العرب. فإضافة إلى احتلال فلسطين وتشريد أهلها وتضييق الخناق على من تبقَّى منهم عبر جعل حياتهم جحيماً لا يُطاق، ثمة كلفة اقتصادية هائلة تسبب بها وجود هذا الكيان الغاصب، ليس فقط بفعل عدوانه الدائم فحسب، بل أيضاً بفعل موقعه في قلب الوطن العربي. يمكن لنا أن نتصور لو أن تنقل الأشخاص والبضائع متاح براً من ساحل بلاد الشام إلى سواحل المغرب العربي وصولاً حتى موريتانيا، من أقصى الخليج العربي حتى أقصى المحيط.

للأسف تسبب زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي بكوارث لا عَدّ لها ولا حصر، لكن أخطر ما فعله اتفاق سايكس بيكو معطوفاً عليه وعد بلفور ليس فقط تقسيم الجغرافيا، بل تقسيم الأمة الواحدة وجعلها مجموعة أقليات متناحرة. لقد خلق المشروع الجهنمي لقوى الاستعمار واقعاً جيوسياسياً عبارة عن حقل ألغام، لو أمعنا في التركيبة السكانية والمجتمعية والقبلية والجهوية والطبقية لكل بلد عربي على حدة لو جدنا بذور الانفجار كامنة تحت الشعارات الفضفاضة عن الوحدة والعيش المشترك وسواها من عناوين إنشائية لم تجد لها ترجمة فعلية راسخة على أرض الواقع. لقد أوجد سايكس بيكو واقعاً جيوسياسياً جعل أي محاولة تغيير محكومة بالتحول حروباً أهلية طائفية ومذهبية وجهوية تماماً كما هو حاصل حالياً في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وقبلها في لبنان والسودان، وبعدها مَن يدري أين تحط الحروب إوارها حـيث لا أحد في مأمن من نـــــيرانها وشــــرورها المستطيرة.
من الواجب الاستدراك فوراً أن تلك الصراعات ما هي إلا صراعات سياسية بين مشاريع دولية وإقليمية متضادة متناقضة آخر ما يفكر فيه أصحابها هي الشعوب المحترقة بنيرانها وحرائقها القابلة والمنذرة بالتوسع ما لم يدرك أبناء هذي البلدان أن لا خلاص لهم بغير توحدهم أن لم يكن حول لغتهم وتاريخهم وجغرافيتهم فعلى الأقل حول مصالحهم المشتركة وما أكثرها. الخارج، كل خارج وأي خارج، لا يهمه سوى مصلحته، وما يجري اليوم ليس سوى امتداد لما جرى بالأمس، مَن لا يقرأ التاريخ ولا يفهمه ولا يستخلص دروسه وعبره لن تُكتَب له النجاة لا في حاضره ولا في مستقبله. فالواقع الجيوسياسي إياه الذي نتحدث عنه هو الذي سهَّل على القوى الاستعمارية المهيمنة المتحالفة مع رجعية متخلفة سرقة أحلام الشباب المشروعة والمحقة بالعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية، وجعل ما سُمِّيَ بالربيع العربي جحيماً عربياً دموياً تهدد نيرانه بالامتداد إلى دول أخرى. قلناها ونقولها لا ديمقراطية بلا تنمية، التنمية تنقل الشعوب من حال إلى حال، وتنتج وعياً تراكمياً يسمح بتحقيق انتقال سياسي سلس وديمقراطي. لهذا السبب بالذات لم يسمح التحالف الإمبريالي الرجعي لشعوبنا العربية بأدنى شكل من أشكال التنمية، وصنع طبقة سياسية غارقة في الفساد والارتهان، عاجزة عن تحقيق طموحات الشعوب وتطلعاتها المشروعة بالتنمية والعدالة والمساواة وبنهضة لا تتحقق بغير تلك العناوين الضرورية التي تمثل ممراً إلزامياً نحو ديمقراطية حقيقية، كما ساهم بصناعة تيارات دينية تكفيرية والغائية حالت وتحول دون ولادة مشروع تنويري لا بد منه لمواجهة قوى الظلام التي تحركها الأيدي الاستخـــــباراتية للقوى الكبرى إياها.
الغرب، بمعناه السياسي، هو المسؤول الأول عمّا نحن فيه، وما تسخيف أي كلام عن مسؤوليته وتآمره سوى جزء من مشروع التآمر نفسه، بحيث صار كل مَن يتحدث عن المصالح العربية المشتركة وعن الأطماع الاستعمارية المستمرة والباقية والمتمددة متهماً بأنه يتكلم لغة خشبية، كيف؟ ثمة آلة سياسية -إعلامية-ثقافية ضخمة وهائلة مهمتها الأساس حرف البوصلة نحو الاتجاه الخاطئ، كيف؟ نحاول الإجابة الأسبوع المقبل.