الانقلاب التركي في نعش العولمةً

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٣١/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٥٤ ص
الانقلاب التركي  في نعش العولمةً

د. فيصل القاسم

نخطئ كثيراً أحياناً عندما نحلل العلاقات الاجتماعية والدولية من منظور ماركسي مادي فقط، فقد درج الكثير منا على النظر إلى العلاقات بين الدول على أساس اقتصادي بحت، فأصبحنا لا نرى في العالم سوى المصالح الاقتصادية، وبتنا نعتبر أن العلاقات بين القوى الدولية تقوم بالدرجة الأولى على منافع مادية متناسين أن هناك عوامل أخرى في غاية الأهمية تحكم العلاقات الدولية وطبيعة التحالفات بين بلدان العالم.
صحيح أن الغرب يبدو وكأنه لا يفهم إلا لغة المصالح المادية بحكم تبنيه واعتماده الكامل على المفهموم الرأسمالي المادي. وصحيح أيضاً أنه غالباً ما يعمل على تغليب المصلحة المادية على المصالح الأخرى في تعاملاته مع بقية الدول والقوى، ويضرب عرض الحائط بالجوانب الأخلاقية والإنسانية، لكن هذا لا يعني أبداً أن الغرب فقد، أو نسي هويته الثقافية والعقائدية تماماً. لا أبداً، بل عندما يجد الجد نرى أن الغرب يتعصب فجأة لهويته الثقافية والدينية، حتى لو كان غالبية الغربيين أصبحوا ملحدين، ولا يؤم الكنائس في بلد مثل بريطانيا سوى ثلاثة بالمائة أو أقل من السكان.
إن الاستفتاء البريطاني الأخير على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أظهر بشكل واضح أن البريطانيين مثلاً باتوا يضيقون ذرعاً بالمهاجرين الأجانب، حتى لو كانوا من الأوربيين المسيحيين، فما بالك لو كانوا من الديانات الأخرى. لقد بات البريطاني العادي يشعر بأن الأوربي الشرقي القادم من بولندا ورومانيا وبلغاريا يهدد هويته الوطنية والثقافية، ولا بد من توقف تدفق المهاجرين الأوربيين الشرقيين. صحيح أن هناك جانباً اقتصادياً للخروج البريطاني من الاتحاد الأوربي، على اعتبار أن الأوربيين الشرقيين باتوا ينتزعون الوظائف من أيدي البريطانيين، وينافسونهم على الخدمات التربوية والصحية والاجتماعية، لكن هناك أيضاً جانباً ثقافياً فاقعاً يقف وراء الانسحاب البريطاني من المجموعة الأوربية.
وإذا كان الأوربيون المسيحيون يميزون بعضهم البعض على أساس عرقي، فلا بد أن يكون لهم موقف من أصحاب الديانات والحضارات الأخرى. وصحيح أن نظرية صراع الحضارات التي أطلقها المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون قد اختفت من التداول الإعلامي في السنوات الفائتة بعد وفاته، لكنها حية ترزق على أرض الواقع. وكان هنتنغتون قد تنبأ بحدوث صراعات دينية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي وحتى الكونفوشي الصيني. وبالرغم من أن الغرب احتضن ملايين المسلمين، وأن الإسلام أصبح الدين الثاني في بلد مثل فرنسا، بحيث يزيد عدد المسلمين الآن عن ستة ملايين، إلا أن الفرنسيين باتوا يعبرون عن امتعاضهم من الوجود الإسلامي بشكل صارخ. ويرى البعض أن الأعمال الإرهابية في فرنسا أعمال مدبرة لتشويه سمعة المسلمين والتحريض ضدهم لمغادرة فرنسا.
ولعل صراع الحضارات بين الغرب والإسلام يظهر بأنصع أشكاله في المثال التركي الأوروبي. ويرى كثير من الباحثين أن العداء الغربي المتصاعد لتركيا منذ سنوات هو شكل من أشكال الصراع الحضاري الذي بشر به هنتنغتون. ويعود ذلك إلى القفزات الكبيرة التي أنجزتها تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة. واضح أن الغربيين ليسوا سعداء بظهور نموذج إسلامي حضاري ينافسهم في تركيا، لهذا راحوا يشيطنون الرئيس التركي أردوغان، لا بل وصل بهم الأمر إلى دعم انقلاب عسكري ضد نظامه. وكان الأوربيون من قبل قد رفضوا رفضاً قاطعاً انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي بالرغم من انجازاتها الاقتصادية العملاقة. لاحظوا أن الأوربيين قبلوا بانضمام دولة أوربية منهارة اقتصادياً كاليونان إلى الاتحاد، بينما رفضوا انضمام تركيا الصاعدة اقتصادياً بسرعة الصاروخ. والسبب كما هو واضح ثقافي وديني. ليس هناك مانع لدى الاتحاد الأوروبي أن ينفق الميارات على اقتصاد اليونان المتداعي كي تبقى اليونان عضواً في الاتحاد، بينما يرفضون انضمام بلد مسلم مثل تركيا يمكن أن يكون رافداً عظيماً للاقتصاد الأوربي، خاصة وأن تركيا في عهد أردوغان انتقلت من المرتبة 111 إلى المرتبة السادسة عشرة في الاقتصاد العالمي، بحيث أصبحت من العشرين الأوائل، مع ذلك لم تحظ "بشرف" القبول في الاتحاد الأوربي، لأنها ليست مسيحية. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في بداية المقال من أن التحالفات الدولية هي تحالفات عقائدية حتى لو كان الجانب الاقتصادي يحظى بأهمية كبرى في العلاقات الدولية.
لقد كانت العولمة مجرد كذبة غربية كبرى للهيمنة على الدول الأخرى ونهب ثرواتها وتمييع هوياتها الثقافية، فالغرب يريد أن يغزو العالم أجمع بحجة العولمة، لكنه لا يسمح لأي ثقافة أخرى ان تخترق مجتمعاته، أو حتى أن تبرز على الساحة الدولية. ولنا في المثال التركي عبرة لمن يعتبر.