مأساة بريطانية من فصل واحد

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٧/يوليو/٢٠١٦ ١٦:٥٣ م
مأساة بريطانية من فصل واحد

كريس باتِن

يُقال إن ليلة الخميس كانت بالغة الأهمية لأولئك الذين تولوا حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي وإدارة ظهر بريطانيا للقرن الحادي والعشرين. وقد أوافق على هذا على الأقل. فكما كتب شيشرون: «كم كان اليوم بائسا تعيسا». سوف يهيمن قرار ترك الاتحاد الأوروبي على الحياة الوطنية البريطانية طوال السنوات العشر المقبلة، إن لم يكن لفترة أطول. وبوسع المرء أن يجادل بشأن شِدة الصدمة الاقتصادية -في الأمدين القريب والبعيد- ولكن من الصعب أن نتخيل أي ظروف ربما لا تصبح المملكة المتحدة في ظلها أكثر فقرا وأقل أهمية في العالم. وسوف يدرك كثيرون من أولئك الذين تشجعوا على التصويت لصالح نيل «استقلالهم»، كما زعموا، أنهم بدلا من اكتساب أي قدر من الحرية خسروا وظائفهم.

لماذا حدث هذا إذن؟

أولا، تتسم فكرة الاستفتاء بتبسيط المعقد إلى حد السخف. فقد اختُزِل تشابك التعاون الدولي والسيادة المشتركة المتمثل في عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في سلسلة من الادعاءات والوعود الكاذبة. فقيل للبريطانيين إنهم لن يدفعوا ثمنا اقتصاديا للخروج، وإن كل قطاعات المجتمع البريطاني التي استفادت من أوروبا لن تتكبد أي خسارة. كما وُعِد الناخبون بصفقة تجارية مفيدة مع أوروبا (أكبر أسواق بريطانيا)، وانخفاض معدلات الهجرة إلى البلاد، والمزيد من المال للإنفاق على الخدمات الصحية الوطنية وغير ذلك من السِلَع والخدمات العامة المهمة. وقبل كل شيء، قيل لهم إن بريطانيا سوف تستعيد «سِحرها»، أو حيويتها الخلّاقة اللازمة لتمكينها من قهر العالم بالقوة.
لعل أحد أبشع الأهوال التي يحملها المستقبل يتلخص في خيبة الأمل المتزايدة بين أنصار «الخروج» عندما ينكشف زيف كل هذه الأكاذيب. فقد قيل للناخبين إنهم سوف «يستعيدون بلادهم»، ولا أظن أن الحال التي ستؤول إليها قد تعجبهم.
يتلخص السبب الثاني وراء الكارثة في تفتت الحزبين السياسيين الرئيسيين في بريطانيا لسنوات، فقد تسببت المشاعر المعادية لأوروبا في تآكل سلطة الزعماء المحافظين. وعلاوة على ذلك، انهار أي تصور للانضباط والولاء الحزبي قبل سنوات، مع تضاؤل عدد الأنصار المحافظين الملتزمين. والأسوأ من هذا هو ما حدث في حزب العمال، الذي قَدَّم أنصاره التقليديون الدافع وراء التصويت بأعداد كبيرة لصالح «الخروج» في العديد من المناطق التي يسكنها أبناء الطبقة العاملة.
مع خروج بريطانيا، نرى الآن الشعبوية على طريقة دونالد ترامب تأتي إلى بريطانيا. ومن الواضح أن هناك عداء واسع النطاق، غارقا في تسونامي المرارة الشعبوية، لكل من يعتبر عضوا في «المؤسسة». فقد رَفَض أنصار الخروج البريطاني مثل وزير العدل مايكل جوف كل الخبراء باعتبارهم جزءا من مؤامرة لخدمة المصالح الذاتية لمن يملكون ضد من لا يملكون. وعلى هذا فقد ذهبت نصائح محافظ بنك إنجلترا، أو كبير أساقفة كانتربري، أو رئيس الولايات المتحدة، أدراج الرياح. وجرى تصوير جميع الناصحين على أنهم ممثلون لعالَم آخر لا تربطه أي علاقة بحياة المواطنين البريطانيين العاديين.
ويقودنا هذا إلى سبب ثالث وراء تصويت أنصار خروج بريطانيا: فقد ساهم الظلم الاجتماعي المتنامي في إشعال الثورة ضد النخبة الحضرية. ففي إنجلترا الصناعية القديمة، في مدن مثل سندرلاند ومانشستر، كان التصويت ضد تحسين أحوال لندن. فالعولمة كما قيل لهؤلاء الناخبين لا يستفيد منها سوى أولئك الذين هم على القمة -الذين يعملون بارتياح مع بقية العالم- على حساب الآخرين جميعهم.
وبعيدا عن هذه الأسباب، لم يكن من المفيد أن أحدا لم يدافع عن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بقوة لسنوات طويلة. وقد أدى هذا إلى إيجاد فراغ سمح للوهم والخداع بمحو فوائد التعاون الأوروبي، وتشجيع الرأي القائل بأن البريطانيين أصبحوا عبيدا لبروكسل. كما تغذى الناخبون الذين أيدوا خروج بريطانيا على مفهوم مثير للسخرية للسيادة، الأمر الذي دفعهم إلى اختيار الاستقلال المتوهم بدلا من المصلحة الوطنية.
بيد أن البكاء على الحليب المسكوب لن يفيد الآن. وفي ظل الظروف القاسية الحالية، يتعين على كل الأطراف المعنية أن تحاول بشرف تأمين ما هو أفضل للمملكة المتحدة. ويتمنى المرء لو كان أنصار الخروج نصف محقين على الأقل، برغم صعوبة تحقق مثل هذه الأمنية. وفي كل الأحوال، يتعين على المرء أن يسعى إلى تحقيق أفضل نتيجة ممكنة بما هو متاح لديه من أدوات.
ولكن يتبادر إلى الذهن ثلاثة تحديات:
فأولا، بعد أن أوضح ديفيد كاميرون أنه يعتزم الاستقالة، فسوف يهيمن جناح اليمين في حزب المحافظين وبعض الأعضاء الأكثر فظاظة على الحكومة الجديدة. ولم يكن لدى كاميرون أي خيار. فلم يكن من الممكن أن يذهب إلى بروكسل نيابة عن زملائه الذين طعنوه في الظهر للتفاوض على شيء لم يؤيده. وإذا جاء خليفته من بين زعماء الخروج البريطاني، فربما يكون في انتظار بريطانيا قائد أمضى الأسابيع العشرة الماضية في نشر الأكاذيب.
ثانيا، من المرجح أن تتعرض الأربطة التي تمسك أجزاء المملكة المتحدة معا -وخاصة أسكتلندا وأيرلندا الشمالية اللتين صوتت كل منهما لصالح البقاء في أوروبا- لإجهاد شديد. وأتمنى أن لا تؤدي ثورة الخروج البريطاني حتما إلى التصويت لصالح الانفصال عن المملكة المتحدة هناك، ولكن من المؤكد أن هذه النتيجة محتملة.
وثالثا، سوف تحتاج بريطانيا إلى البدء في التفاوض على خروجها قريبا جدا. ومن الصعب أن نرى كيف قد تنتهي بها الحال إلى علاقات أفضل مع الاتحاد الأوروبي. وسوف يواجه كل البريطانيين صعوبة شديدة في إقناع أصدقائهم في مختلف أنحاء العالم بأنهم لم يفقدوا عقولهم المعتدلة. لقد أحيت حملة الاستفتاء السياسة القومية، التي تدور في نهاية المطاف حتما حول العِرق والهجرة والمؤامرات. وتتلخص المهمة التي ينبغي لنا جميعا في معسكر أنصار أوروبا أن نتولاها في محاولة احتواء القوى التي أطلق لها الخروج البريطاني العنان، والتأكيد على ذلك النوع من القيم التي أكسبتنا في الماضي العديد من الأصدقاء والمعجبين في مختلف أنحاء العالم.
بدأ كل هذا في أربعينيات القرن العشرين، مع ونستون تشرشل ورؤيته لأوروبا. وربما يمكننا وصف الطريقة التي قد ينتهي بها بالاستعانة بواحد من أشهر أقوال تشرشل: «المشكلة في الانتحار السياسي هي أنك تعيش إلى أن تندم عليه».
الحق أن العديد من الناخبين الذين صوتوا لصالح «الخروج» قد لا يعيشون إلى اليوم الذي يندمون فيه عليه. ولكن يكاد يكون من المؤكد أن البريطانيين الشباب الذين صوتوا بأغلبية ساحقة لصالح البقاء جزءا من أوروبا سوف يتألمون.

آخر حاكم بريطاني لهونج كونج