محاولة لفهم زيارة عشقي لاسرائيل

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٦/يوليو/٢٠١٦ ٠٩:٤٦ ص
محاولة لفهم زيارة عشقي لاسرائيل

فهمى هويدى
صدمتنا زيارة وفد من السعودية لإسرائيل حقا، لكنها لم تفاجئنا تماما. لولا الصورة التي نشرت لما صدقنا. إذ ظهر أنور عشقي رجل المخابرات الأسبق الذي أصبح مدير مركز للدراسات في جدة، وسط بعض أعضاء «الكنيست» في القدس. ولاستكمال دلالة المشهد وقف بينهم الجنرال السابق عوفر بارليف أحد صقور حزب العمل، الذي قاد وحدة «سيير تمتكال» المسؤولة عن عمليات الاغتيالات في الدول العربية، وأن يتباهى في في حملته الانتخابية بأنه قتل العدد الأكبر من العرب أثناء خدمته العسكرية. وممن التقاهم الرجل في القدس المدير العام لوزارة الخارجية دوري جولد مؤلف كتاب «مملكة الكراهية»، الذي كرسه لإثبات الادعاء بأن السعودية دعمت الإرهاب في العالم.

عدد صحيفة «هاآرتس» الصادر في 22/‏‏7 ذكر أن عشقي (72 سنة)، اصطحب معه وفدا غير رسمي ضم عددا من الأكاديميين ورجال الأعمال. وأشارت إلى أنه لا يشغل أي منصب رسمي، إلا أن زيارته لم تكن لتتم بغير موافقة السلطات السعودية. لم يظهر أعضاء الوفد في الصور التي نشرت، لكننا فهمنا أن رئيسه الذي استأثر بالأضواء عقد عدة لقاءات مع المسؤولين الإسرائيليين وأعضاء البرلمان (الكنيست)، ولم تتم اللقاءات في مكتب حكومي، ولكنها عقدت في فندق الملك داوود الذي أقام فيه عشقي ومن معه. وإلى جانب الزيارة التي تمت للقدس فإن الرجل زار رام الله والتقى الرئيس محمود عباس وبعض الشخصيات الفلسطينية. وفهمنا من الكلام المنشور أن اللواء عشقي سبق له أن زار رام الله عدة مرات، وأنه التقى مسؤولين إسرائيليين أثناء تلك الزيارات، وبسبب زيارته تلك أصبح يوصف بأنه عراب التطبيع بين إسرائيل والمملكة السعودية، رغم أنه يقدم نفسه باعتباره مديرا لمركز للأبحاث ومفكرا وباحثا استراتيجيا، ولم يعد يذكر خلفيته العسكرية ودوره كرجل مخابرات سابق، ترك الخدمة لكنه لم ينفصل عن السلطة.

***

إذا كان إعلان الزيارة قد صدمنا، فإن تبريرها أدهشنا. ليس فقط لأنه تحدث عن أن العملية مجرد مبادرة ذاتية، وأن المراكز الذي تبناها مستقلة عن الحكومة، ولكن لأنه حاول إقناعنا بأنها من أجل فلسطين. إذ في حديثه لوسائل الإعلام السعودية ذكر أنه لم يزر إسرائيل ولكنه زار فلسطين، والقدس التي يعتبرها الإسرائيليون عاصمة لدولتهم هي في نظره فلسطينية وقضية عربية وإسلامية. وأضاف أنه أثناء الزيارة اجتمع مع أسر الشهداء الفلسطينيين وحضر حفل زفاف ابن القيادي الفلسطيني مروان البرغوثي. وقد أمّ المصلين لصلاة المغرب في بيت المقدس، كما تولى إمامتهم في مسجد عمر بن الخطاب الذي يقع في المهد ببيت لحم، وكان الهدف من كل ذلك هو نصرة القضية الفلسطينية.
في تصريح آخر ذكر عشقي أن هدف الزيارة كان مناقشة مبادرة السلام العربية، التي أطلقتها السعودية وتبنتها قمة بيروت العربية عام 2002. وعلق عضو الكنيست عيسوي فرجي على كلامه بقوله أنه اقترح عليه عقد لقاء موسع مع أعضاء البرلمان الذين يؤيدون المبادرة، مضيفا أن السعوديين أصبحوا راغبين في الانفتاح علنا على إسرائيل لاستكمال مسيرة الرئيس الراحل أنور السادات.
الانفتاح العلني الأخير على إسرائيل لم يكن الأول في بابه، كما أن عشقي لم يكن الوحيد الذي تصدى له. إذ في شهر يناير من العام الفائت، نشرت له صورة وهو يصافح ضاحكا مدير عام وزارة الخارجية دوري جولد، حين اشتركا معا في ندوة عقدها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في واشنطن. وفي وقت لاحق (مايو من العام ذاته) أجرت معه صحيفة «يديعوت أحرنوت» حوارا وصف بأنه جرئ، ذكر فيه أن السعودية مستعدة لفتح سفارة لها في إسرائيل إذا ما قبلت المبادرة السعودية/‏‏العربية.
من ناحية أخرى فإن الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السابق كان قد سبقه بلقاء عقده مع مسؤولين إسرائيليين بالعاصمة البلجيكية بروكسل في 26 مايو عام 2014، أثناء مناظرة نظمتها منظمة «مارشال» الألمانية لمناقشة القضية الفلسطينية ومكافحة الإرهاب. وكان ممثل إسرائيل في المناظرة الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات بالجيش الإسرائيلي عاموس يادين. وفي السادس من شهر مايو للعام الجاري استضاف معهد واشنطن مناظرة بين الأمير تركي الفصيل واللواء الإسرائيلي يعقوب عميدور مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق. وتحدث الاثنان عن ضرورة تواصل الحوار لتحقيق الأمن والسلام. ونشرت صحيفة «هاآرتس» في شهر فبراير من العام الجاري صورة جمعت بين الأمير السعودي ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، حين التقيا في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد في المدينة الألمانية.
حين يقوم بالاتصالات العلنية مع إسرائيل اثنان من رموز السلطة في المملكة، أحدهما أمير ومدير أسبق للمخابرات وسفير سابق في واشنطن، والثاني ضابط مخابرات ترقى في مدارج السلطة حتى أصبح مستشار اللجنة الخاصة لمجلس الوزراء، فإننا لا نستطيع أن نعتبر تلك الاتصالات «مبادرات شخصية» وعند الحد الأدنى فإنها إن لم تكن برضى السلطة، فإن استمرارها يعني أنها لم تعترض عليها. الأمر الذي لا يقل أهمية هو أن الإعلان عن تلك الاتصالات بدءا من العام 2014 يعني أن الطريق ممهد ومفتوح بدرجة أو أخرى بين الرياض وتل أبيب، وأن ما تم إعلانه على الملا كان استكمالا لما لم يعلن عنه في السنوات الفائتة. ولدينا من القرائن ما يؤيد ذلك الاستنتاج. فالدراسات الإسرائيلية سجلت محاولات اختراق القادة الصهاينة للعالم العربي منذ خمسينيات القرن الفائت، أي بعد سنوات قليلة من تأسيس الدولة العبرية، وبوجه أخص بعد قيام الثورة المصرية في 23 يوليو عام 1952، التي اعتبرت تحديا لها آنذاك، خصوصا حين تبنت خطها القومي، واعتمدت قضية فلسطين كقضية مركزية. وكنت قد أشرت في مقام فائت إلى الدراسة التي أعدها العميد المتقاعد موشي فرجي وأصدرها مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا (عام 2003). إذ أفردت فصلا خاصا بالتحالف الإسرائيلي مع الأقليات العرقية والطائفية في العالم العربي، في المقدمة منهم الأكراد والدرورز، والموارنة والجنوبيين في السودان. والمعلومات المنشورة وثقت حرص إسرائيل على تفتيت العالم العربي المحيط، من خلال إذكاء أي فتنة واستثمار أي ثغرة. ما يهمنا في استدعاء هذه الخلفية أن إسرائيل كان لها دورها أيضا في مناصرة الملكية عقب ثورة اليمن في بداية الستينيات، وأن المخابرات السعودية رتبت قيام الطائرات الإسرائيلية الإسرائيلية بنقل أعداد من المرتزقة الأوروبيين للحرب إلى جانب الملكيين، خصوصا أثناء معركة السبعين يوما التي حوصرت فيها العاصمة صنعاء. وشهود تلك المرحلة من الخبراء المصريين واليمنيين لا يزال بعضهم على قيد الحياة. ولديهم الكثير الذي يوثق وقائعها. كــــــما أن للأستاذ محمد حسنين هيكل شهادة في كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (ج 2) تحدث فيها عن التــــــعاون الإسرائيلي السعودي أثناء حرب اليمن.
إذن تصور الـــــعاهل السعودي الراحل أن وجود جيش عبد الناصر في اليمن يهدد عرشـــــه أسوة بالمصير الذي حـــل بعرش الملك فيصل الثاني بالـــــعراق، الذي أسقطـــــته ثورة 1958 لتقيم الجمهورية بعد ذلك.
لا نستطيع أن نخدع أنفسنا بالحديث عن أن الزيارة لها علاقة بالقضية الفلسطينية وإن تذرعت بها. في الوقت ذاته ليس واضحا الآن أي الأسباب السابق ذكرها أوصل الأمور إلى ما وصلت إليها. وربما كان لكل منها له دوره فيما جرى. غير أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن التزامن بين زيارة السعودية وبين انعقاد القمة العربية في نواكشوط الأمر الذي جسد المسافة بين الحلم الذي تبدد وبين الواقع المزري الذي صرنا إليه.