فخ الانقلاب التركي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/يوليو/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م
فخ الانقلاب التركي

أ.د. حسني نصر

بمجرد تواتر الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي عن وقوع انقلاب عسكري في تركيا مساء الخامس عشر من يوليو الجاري، هرعت مثل غيري إلى التلفزيون باعتباره الوسيلة الإعلامية الأقدر على تقديم بث حي ومباشر من موقع الحدث ومتابعة تفاصيله وتطوراته. وبعد بحث وتنقل بين القنوات الإخبارية الناطقة باللغة العربية، ومقارنة ما تقدمه كل منها، اخترت أن أتابع قناة الجزيرة القطرية التي تفوقت في تقديري على جميع تلك القنوات بتقديم التغطية الإخبارية الوافية على مدار الساعة، دون أن تخلطها بالتحليل والرأي ودون أن تشغلنا بآراء المحللين والخبراء الذين كانوا مثلنا في هذا الوقت لا يعرفون ما يجرى على الأرض، وكانوا ينطلقون في تحليلاتهم التي تميزت بالسطحية من مواقفهم الشخصية من طرفي الصراع في هذا الانقلاب الفاشل. ويرجع تفوق الجزيرة في رأيي إلى احتفاظها بشبكة مراسلين محترفة في تركيا كانت قادرة على تغطية ما يجرى في أنقرة وإسطنبول لحظة بلحظة.

نعلم أن الموضوعية الكاملة في الإعلام المعاصر وهم كبير، ولذلك فإننا لم نكن نتوقع أن تقدم القنوات الإخبارية العربية خاصة في الساعات الأولى من وقوع الانقلاب تغطية خبرية موضوعية، وكنا نأمل فقط في أن تلبى سريعا حاجة المشاهد إلى الإحاطة بالحدث دون أن ترهقه بالتحليلات والآراء المتحيزة التي يمكن اللحاق بها والتوسع في عرضها بعد أن تتضح الرؤية وتستقر الأمور سواء في صالح الحكومة المدنية المنتخبة او في صالح الانقلابيين من ضباط الجيش التركي.
الذي حدث أن الإعلام العربي بصفة عامة وقع في فخ الانقلاب التركي وتأثر بصدمة فشله، فاتجه في البداية إلي استباق الأحداث وإصدار الأحكام المبكرة، وانطلقت كل قناة وصحيفة وكل موقع إخباري الكتروني من قناعاته الخاصة متأثرا بالسياسات التي تحكمه والمصالح التي يعبر عنها، فرقص مذيعو بعض القنوات فرحا بوقوع الانقلاب، وخرجت صحف صباح اليوم التالي في بعض الدول العربية بعناوين كبيرة وموحدة تبشر باستيلاء الجيش علي السلطة في تركيا، رغم إعلان فشل الانقلاب وظهور الرئيس رجب طيب اردوغان في مطار أتاتورك قبل صدور هذه الصحف بساعات.

لقد وقع الإعلام العربي، إلا من رحم ربي، في فخ الانقلاب التركي الفاشل، وأضاف إلى نماذج فشله المتعددة نموذجا جديدا سيكون بالتأكيد محل بحث ودراسة من الباحثين في الإعلام في المستقبل. وتتضح معالم هذا الفشل في أكثر من جانب لعل أهمها افتقار قنوات تليفزيونية إخبارية كبيرة ذات تاريخ طويل لمصادر ومراسلين على الأرض في تركيا لموافاتها بالأخبار، واعتمادها المبالغ فيه على ما تبثه بعض وكالات الأنباء العالمية، وبعض ما ينشره مؤيدون او معارضون للانقلاب على شبكات التواصل الاجتماعي، ولذلك كانت كثيرا ما تضطر إلي نفى أخبار بعد إذاعتها بوقت قليل، مثل خبر لجوء اردوغان إلي ألمانيا وروسيا ودول أخرى، وخبر إغلاق وفتح جسري البسفور، وأخبار المظاهرات الشعبية المناوئة للانقلاب التي تسرعت بعض القنوات وقالت إنها مظاهرات مؤيدة للانقلاب.

وإذا تجاوزنا عما قدمته بعض الفضائيات العربية خاصة المصرية والسورية من تغطية كوميدية وسريالية للأحداث، وهي تغطية مفهومة في ضوء الخلاف السياسي بين النظامين الحاكمين في مصر وسوريا وبين النظام الحاكم في تركيا، إذا تجاوزنا عن ذلك وأرجعناه إلى حالة الصدمة والذهول التي أصابت هذه الفضائيات في أعقاب الفشل السريع للانقلاب، فان تلوين الأخبار من خلال خلط الرأي بالأخبار ونشر أخبار غير مؤكدة وكاذبة وحذف وقائع من بعض الأخبار، كان من أبرز معالم الفشل الأخرى التي انجرفت اليها وسائل الإعلام العربية.

قد يقول قائل إن سرعة الحدث وتلاحق تفاصيله أربك غرف التحرير في الفضائيات والصحف العربية، وبالتالي كان طبيعيا أن تقع في أخطاء خاصة في الساعات الأولي التي ندرت فيها الأخبار وتضاربت الحقائق. ولهؤلاء نقول إن هناك فارقا بين أخطاء المهنة التي تقع بطريقة عفوية غير مقصودة، وبين الخطايا التي تتم مع سبق الإصرار والترصد، والحقيقة أن وسائل إعلام عربية عديدة كانت وما زالت تترصد للتجربة التركية وللنجاح السياسي والاقتصادي الذي حققته، وتريد أن تثار من تركيا بسبب مواقفها المعلنة المعارضة لبعض الأنظمة العربية. ولهذا السبب ورغم انتهاء الانقلاب بالفشل واتضاح الرؤية، ما زالت هذه الوسائل الإعلامية تناصب النظام التركي العداء وتتحيز ضده وتحرض عليه. إذ يحزنها للغاية الإهانة التي تعرض لها الجيش التركي علي يد الشعب الذي خرج وأفشل الانقلاب، رغم أن الإهانة لم تطل سوى العسكريين الانقلابيين، كما يحزنها على غير العادة حملات الاعتقال والتحقيقات التي تجرى مع ضباط وجنود الجيش التركي المتورطين في محاولة الانقلاب وكذلك القضاة والموظفين ورجال الشرطة والمعلمين المرتبطين بها. والطريف أن نفس هذه الوسائل لم تحرك ساكنا ولم تقل كلمة واحدة، عندما تقوم الأنظمة التي تعمل في خدمتها بقتل مواطنيها في الشوارع وتصفية معارضيها في المنازل، ناهيك عن اعتقال عشرات الآلاف وإصدار أحكام الإعدام الجماعية، واستخدام القضاء العسكري في إنزال اشد العقاب بالمعارضين. والطريف أيضا أن تسمع أحد مقدمي البرامج التلفزيونية العرب وهو يتحدث بقلق عن إعلان حالة الطوارئ في تركيا لمدة ثلاثة أشهر، والتي أقرها البرلمان الخميس الفائت بناء على توصية مجلس الأمن القومي، وكيف أن فرض هذه الحالة سوف يضر بالحريات والحقوق الأساسية والممارسة الديمقراطية، في حين يخضع هو نفسه لحالة طوارئ دائمة لا تنتهي.

لقد اثبت تجربة الانقلاب التركي الفاشل أن بعض وسائل الإعلام العربية لم تتغير، وظلت أسيرة لتراثها السلطوي الذي يضرب بكل القيم المهنية عرض الحائط، حفاظا على قربها من السلطة. وفي عصر تعددت فيه منصات النشر وتنوعت الخيارات الإعلامية أمام المواطن العربي، قد تجد هذه الوسائل الإعلامية نفسها قريبا خارج إطار الزمن والتاريخ.

أكاديميفي جامعة السلطان قابوس