تجتاح العالم المتقدم ثورة تكنولوجية كاسحة، تعبر الحدود دون قيود، وينتج عنها او يصاحبها تغير في طبيعة المعرفة ذاتها وفي جميع مناشط الحياة وعلى جميع الاصعدة، الامر الذي يستلزم اعادة النظر في مسلمات الفكر وطرائقه التي تعودنا عليها.
الثورة التكنولوجية التي تجتاحنا تختلف عما شهدتها البشرية سابقا وتنطوي على أذى للاقطار النامية والاقل استعدادا للتقدم والاكثر ميلا لمقاومة التغيير، حيث تحيل عددا متزايدا من النشاطات الاقتصادية الى مشروعات لا جدوى منها.
والتقدم العلمي واكتشافاته ونتائجه، اذا لم نتمكن من استيعابها، سوف تقوم بتهميش اقتصاديات الاقطار النامية وتلغي وظائف عديدة وتستحدث وظائف اخرى مختلفة، علما ان اكثر الوظائف التي يعمل بها العدد الاكبر من شبابنا وشاباتنا هي الوظائف الإدارية والكتابية وغيرها من الوظائف الوسطى، وهي ذات الوظائف المهددة بالتراجع المستمر ثم الانقراض امام زحف التكنولوجيا. واذا لم نتدارك كل ذلك فان التكنولوجيا الحديثة سوف تكون عبئا يثقل كواهلنا.
وكيفية ادارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية والعلمية، تؤدي دورا كبيرا في تحديد قراراتنا لمواجهة التحولات العالمية المتسارعة. كما تفرز تلك الثورة العارمة تداعيات اخرى عديدة منها التغير الاجتماعي المتسارع، وما ينتج عنه من تغيرات وتبدلات في مفاهيم القيم والمعايير والبيئة الاجتماعية للعمل والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية ونوعية فرص العمل.
التغيرات التي تحصل ليست من جيل الى اخر كما عهدنا في الماضي، ولكنها في حياة نفس الجيل ولمرات عديدة. كما يترتب على تلك الثورة انفتاح اعلامي ثقافي حضاري غير مسبوق. فوسائل الاتصال السريعة بل والآنيّة، تعبر الحدود بلا قيود برسائلها ومضامينها، من اي مجتمع لاي مجتمع اخر الى درجة تصبح وسائل الرقابة التقليدية، ادوات بدائية عديمة الكفاءة او قليلة الفاعلية ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية الوافدة من مجتمعات وثقافات اخرى.
إن التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق التكنولوجي الاعلامي الثقافي هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي وفي قدرات وسائل الاعلام والتعليم الحديث والثقافة الوطنية على تقديم بدائل اكثر جدية ومصداقية وجاذبية واكثر قدرة على فهم واستيعاب التغيرات. وهذه المهام تتجاوز قدرة تلك الأجهزة كما عرفناها في الماضي، وكما نعرفها الان في مجتمعاتنا. فهذه المهام تتطلب أنظمة وأجهزة تعليمية وثقافية وإعلامية خلاقة ومعاصرة ومقتدرة، اذا كان لها ان تحافظ على هوية مجتمعاتنا الحضارية القومية وتحفظها من المسخ والذوبان وفي نفس الوقت لا تتحول المجتمعات الى متاحف تراثيه منغلقة وجامدة.
وكل ذلك يستدعى وبسرعة احداث تغيرات في تلك الأنظمة، ولاسيما النظام التعليمي المعني وعلى الاخص التعليم الثانوي.. فالتعليم الحديث المعاصر والمستجيب لاحتياجاتنا، في يومنا وغدنا.. هذا التعليم الثانوي عليه ان يسهم بشكل فعال ومؤثر في عملية استيعاب التغيرات التي تجتاح العالم، عن طريق تعلم طرائق التفكير وعبر غرس الروح النقدية عند الطلبة في المرحلة الثانوية، نظرا لما يتميز به طالب هذه المرحلة من خصائص معينة ترتبط بطبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها.
والتعليم الحديث كما اسلفنا يسير باتجاه تعليم الطالب عدد متنوع من المهارات مثل القدرة على التكيف والمرونة والقدرة على التعامل مع التغير السريع والقدرة على نقل الافكار والقدرة على استشراف التغير والاستعداد له والتهيأ للتفاعل معه بشكل واع والتأثير فيه، والاطلال بالفكر على المستقبل وادراك احتمالاته وتوقي مفاجأته وبلوغ غاياته.
كما يتعين على المدرسة الثانوية تنمية اخلاقيات العمل عند الطلبة وغرس روح الفريق والعمل على التخطيط لايجاد الحوار البناء والمناقشة الحرة المسؤولة بعيدة عن الاراء القطعية غير القادرة على التفاعل والحوار سواء داخل المدرسة او خارج اسوارها، وغرس مفاهيم التعلم المستمر مدى الحياة، اي التعلم الذاتي بابعاده المختلفة وتعويد الطلبة طرق ومناهج التفكير العلمي في التعامل مع القضايا الفكرية والعملية والمجتمعية والحث على قيم التسامح وقبول الاخر وتنمية الثقافة الوطنية والروح الوطنية، وغرس مفاهيم المواطنة الصحيحة، اضافة الى قيم المحاسبة والشفافية.
كما تتطلب العملية تنويعا واسعا في التعليم الثانوي عن طريق اتاحة الفرصة لدراسة مواد اختيارية تحسب لها درجات، اضافة الى المواد الإلزامية، وتعليم بعض المواد الانسانية في الصفوف العلمية، وتدريس العلوم والرياضيات في الاقسام الأدبية.
إن التاريخ يجيء دائما ليقدم قوائمه بالفائزين والخاسرين. وإن التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية شأنها شأن الحروب والدورات الرياضية، لا تنطوي في العادة على فوز لجميع الاطراف. ان من ينتفع بالتقدم هي الجماعات والامم والاوطان التي غدت قادرة غلى تطوير تعليمها بصوره مستمرة، وعلى تسخير العلوم والتكنولوجيا والثقافة لمصلحتها فيما يلحق الضرر بالبلدان الاخرى الاقل استعدادا للاستجابة للمتغيرات التعليمية والتكنولوجية والثقافية والعلمية.
وفي الختام، أود القول إنه طالما لم نتوصل الى حلول لمشاكلنا التعليمية، كما في العديد من المشاكل الاخرى، فمعنى ذلك أن هناك خطأ أو نقصا في التشخيص، وتظل إعادة الفحص ضرورية خصوصا بما استجد من وسائل وأدوات قادرة على الاحاطة بكل الابعاد والنفاذ الى أعماق المشاكل التي نواجهها.
وتبقى جملة واحدة، أتمنى فيها ألا أكون قد فعلت في مقالاتي التسعة هذه مثلما فعل ذلك الشيخ الفقيه الذي قيل عنه قديما إنه "فسر الماء بعد الجهد بالماء".