داني رودريك
تتبع الانقلابات العسكرية ــ الناجحة منها أو الفاشلة ــ نمطا يمكن التنبؤ به في تركيا. إذ تكتسب الجماعات السياسية ــ الإسلامية عادة ــ التي يرى العسكر أنها مُعادية لرؤية كمال أتاتورك لتركيا العلمانية قوة متزايدة. فترتفع حِدة التوترات المصحوبة غالبا بالعنف في الشوارع. ثم تتدخل المؤسسة العسكرية فتمارس ما يزعم العسكر أنه من صلاحياتهم الدستورية لاستعادة النظام والمبادئ العلمانية.
بيد أن الأمر مختلف تماما هذه المرة. فبفضل سلسلة من المحاكمات الصورية التي استهدفت الضباط العلمانيين، تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان من إعادة تشكيل التدرج القيادي في المؤسسة العسكرية ووضع رجاله على القمة. وعلى الرغم من سلسلة الهجمات الإرهابية التي هزت البلاد في ظل ظروف اقتصادية متدهورة، لم تبدر أي إشارة إلى اضطرابات في المؤسسة العسكرية أو معارضة لأردوغان. بل على العكس من ذلك، لابد أن مصالحة أردوغان مع روسيا وإسرائيل مؤخرا، جنبا إلى جنب مع رغبته الواضحة في الانسحاب من أي دور نشط في الحرب الأهلية السورية، كانت مصدر ارتياح للقيادات العسكرية الكبيرة في تركيا.
ولم يكن أقل من هذا إثارة للحيرة والارتباك سلوك الهواة الذي رأيناه من الانقلابيين، الذين تمكنوا من أسر رئيس هيئة الأركان ولكن من الواضح أنهم لم يبذلوا أي محاولة حقيقية لاحتجاز أردوغان أو أي من كبار الساسة. كما سمحوا لقنوات التلفزيون الرئيسية بمواصلة البث لساعات، وعندما ظهر العسكر في الاستوديوهات، كان انعدام كفاءتهم أقرب إلى الهزل.
وقصفت الطائرات المدنيين وهاجمت البرلمان ــ وهو سلوك غير معهود بالمرة من المؤسسة العسكرية التركية خارج مناطق التمرد الكردي. وكانت مواقع الإعلام الاجتماعي ذاخرة بصور لجنود تعساء (ويبدو بوضوح أنهم لا يدرون ماذا يجري) يُسحَبون من دباباتهم وينتزع منهم سلاحهم (وفي بعض الأحيان ما هو أسوأ كثيرا) من قِبَل حشود مدنية ــ وهي المشاهد التي لم أكن لأتصور قَط أنني قد أراها في دولة أصبحت تكره الانقلابات العسكرية ولكنها رغم ذلك تحب جنودها.
كان أردوغان سريعا في إلقاء اللوم عل حليفه الاسبق وعدوه الحالي، الداعية فتح الله كولن، الذي يقود حركة إسلامية كبيرة من ضواحي فلادلفيا. وهناك أسباب واضحة للتعامل مع هذا الأمر بقدر من الارتياب، ولكن الادعاء أقل غرابة مما قد يبدو. فنحن نعلم أن حركة كولن تتمتع بحضور قوي في المؤسسة العسكرية (وبدون هذا الحضور فإن تحرك الحكومة في وقت سابق ضد كبار الضباط الأتراك ــ ما يسمى قضايا إيريجينيكن وسليدج هامر ــ ما كان ليصبح في حكم الممكن. والواقع أن المؤسسة العسكرية كانت بمثابة المعقل المتبقي لحركة كولن في تركيا، منذ عمل أردوغان بالفعل على تطهير المتعاطفين مع الحركة في الشرطة، والقضاء، والإعلام.
كما نعلم أن أردوغان كان يعد العدة لتحرك كبير ضد أتباع كولن في المؤسسة العسكرية. وقد ألقي القبض بالفعل على عدد قليل من الضباط بتهمة تلفيق الأدلة في محاكمات سابقة، وأشيع أن تطهيرا على نطاق واسع للضباط من أتباع كولن كان يجري التحضير لإطلاقه في اجتماع الشهر المقبل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
هذا يعني أن أتباع حركة كولن كان لديهم الدافع، كما يدعم توقيت المحاولة تورطهم. وإنها لمفارقة مذهلة أن يأتي الانقلاب، الذي طالما خشي أردوغان أن يقوم به في نهاية المطاف العلمانيون، من جانب من كانوا ذات يوم من حلفائه ــ والذين كانوا أنفسهم مسؤولين عن اختلاق عدد لا حصر له من المؤامرات الانقلابية ضد أردوغان.
ومع هذا فإن الانقلاب العسكري الدموي يقع إلى حد كبير خارج نطاق طريقة عمل حركة كولن التقليدية، والتي تميل إلى تفضيل تدبير المكائد من وراء الكواليس عل العمل المسلح أو العنف الصريح. وربما كان الانقلاب محاولة يائسة أخيرة، خاصة وأنهم على وشك خسارة معقلهم الأخير في تركيا. ولكن في ظل هذا العدد الكبير من علامات الاستفهام حول ما حدث، فإن ظهور العديد من التحولات والتقلبات الغريبة في الأسابيع المقبلة لن يكون أمرا مستغربا.
بيد أن عدم اليقين بشأن ما قد يحدث الآن أقل كثيرا. فسوف تضيف محاولة الانقلاب المزيد من القوة لسُم أردوغان وتغذي ملاحقات أوسع للمنتمين إلى حركة كولن. وسوف يُعزَل الآلاف من مناصبهم في المؤسسة العسكرية وأماكن أخرى، ثم يجري اعتقالهم ومحاكمتهم مع أقل قدر من الاعتبار لسيادة القانون أو افتراض البراءة. وهناك بالفعل دعوات مثيرة للقلق لإعادة عقوبة الإعدام للانقلابيين، الذين يمثلون كما تُظهِر التجربة الأخيرة فئة واسعة للغاية في نظر أردوغان. وتُنذِر بعض أعمال الشغب من قِبَل الغوغاء ضد الجنود الأسرى بقدر من التعصب والتطرف قد يعرض للخطر كل ما تبقى من سبل الحماية للعملية القانونية الواجبة في تركيا.
ومحاولة الانقلاب نبأ سيئ للاقتصاد أيضا. كانت مصالحة أردوغان السطحية نوعا ما مع روسيا وإسرائيل مؤخرا مدفوعة في الأرجح بالرغبة في استعادة تدفقات رأس المال الأجنبي والسياح. والآن بات من غير المرجح أن تتحقق هذه الآمال. ذلك أن الانقلاب الفاشل يكشف عن حقيقة مفادها أن الانقسامات السياسية في البلاد تمتد إلى جذور أعمق من كل تصورات حتى أشد المتشائمين تشاؤما. وهذا من غير المرجح أن يخلق البيئة الجاذبة للمستثمرين والزائرين.
ولكن على المستوى السياسي يُعَد الانقلاب نعمة لأردوغان. على حد تعبيره، عندما كان لا يزال من غير الواضح ما إذا كان قد يخرج من الأزمة منتصرا: "هذه الانتفاضة هبة من الرب لنا لأن هذا سيكون سببا لتطهير جيشنا". والآن بعد فشل الانقلاب فسوف يحظى بالرياح السياسية المواتية لإجراء التعديلات الدستورية التي سعى إليها طويلا لتعزيز الرئاسة وتركيز السلطة في يديه.
وبالتالي فإن فشل الانقلاب من شأنه أن يعزز من استبداد أردوغان ولا يحقق أي قدر يُذكَر من الفائدة للديمقراطية التركية. ومع هذا فمن المؤكد أن الضربة التي كانت لتوجه إلى آفاق الديمقراطية لو نجح الانقلاب كانت لتصبح أكثر شدة، وكانت تأثيراتها لتدوم طويلا. ويقدم لنا هذا على الأقل سببا للابتهاج.
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد