إلى فلسطين
فقط في خريطةٍ ما من العالم،
نتتبَعُ عليها الوديانَ والأنهار،
نخطُّ عليها مسار القوافلِ العربية،
نرسمُ عليها شجرةَ الزيتونِ المباركة،
نردّدُ أنّ رسول الله بالبُراق رحل إليها،
نضعُ رؤوسَ أقلامٍ حولَ مدائنِها،
رسَمها صلاحُ الدين بعناقيد الفتح،
ونحنُ نرسُمها اليوم بقطرات الدّم،
حالُها بالأمسِ عن اليومِ لا يختلف،
لا جديد يُذكر سوى أنّ شيخاً قُتل،
ولا غريب إذا الطفلُ أُطلقَ عليه النار،
امرأةٌ تُهان، تُداسُ، وتغْتال، ولا مُجيب،
في تلكَ البلاد، لا في هذهِ الخريطة،
صفائحُ أرضها تطوي نفسَها كلّ يوم،
تضمَّ الشهداء وتفرشُ نفسها كفناً،
ذاك يموت، وذاكَ يصيح، وتلكَ تصرُخ،
وعلى كِثرتِهم، لا ضمير حيٌ من العالم،
بات الصغارُ يكتبون وصاياهُم قبل النوم؛
خوفاً أنْ يكونوا من الذين أَغرقَهُم الموج،
إن سألتَ عن أكثر الأطفالِ شجاعةً،
فهم يقطنوا في تلكَ البلاد المنسيّة،
تُذكرُ عندما يستشهدُ أحدٌ من البقية،
تغسِلُ الشهيدَ بدموعِ أهلهِ وأترابهِ،
يودّع الطفلُ أمّه قبلَ أن يذهبَ للمدرسة،
ونحنُ هُنا بالعجزِ أصبحنا وبالنعمةِ كفرنا،
في الريف يلعبونَ مرحاً، فإذا بقنبلةٍ نارية،
تُخلِّفُ بعدها شظاياَ من أرواحٍ بريئة،
وتلكَ تقعُدُ تخبِزُ وهي تنتظِرُ الصبيان،
عادت الطيورُ المهاجرة، ولم يعودوا،
نساءٌ ورجالٌ بين حيطانِ الحصار وقفوا،
تركُوا ما عندهم وراحوا باحثينَ عن الفرج،
بأيديهم حجارةً يرجمونَ بها الأعداء؛
قدّموها قرابينَ لهم، جزاءَ ما فعلوا،
هؤلاء ضحّوا بما معهم فدىً للبلاد،
فإنْ تربّع اليأسُ فيهم وغلبهم الحصار؛
فتلكَ مآذِنُ الأقصى، تلهفُ بالدعاء،
وإنْ ماتت ضمائرُ العالم، وغلبها النُعاس؛
فتلك الشجرةُ لا زالت تُثمِرُ زيتوناً أخضر.
*************************
ذكرى
كلُّ يوم أمرُّ بحائط أسودٍ كئيب!
حائطٌ يُضعفُ كياني، يمزّق أركاني،
يشتتني، يعذِّبني، يعتريني الشجن،
من نظرةٍ قصيرة، تُعيد لي ذكرى طويلة،
سُلبَت منّي تفاصيلُها، وبقى لي أرشيفُها،
ماتتَ الروح الدفينة، وعاشت الصُورة المعلّقة،
تمثِّل دورها، تقتنِصُ شخصيتها،
تَخطِفُ نظرَ العيون، فتُحدِّق تلك الأخرى،
فلا تكادُ تعبِرُ؛ إلّا وهِي تعود إلى الوراء،
بمخيلتها ترسمُ فضاءً رحب الترحال،
تسيرُ بعكسِ عقاربِ الساعة،
بمجدافٍ يقاوم الأمواجَ العاتية،
لتصل إلى لحظةٍ صامتة،
تَجمعُها بِمن في الصورةِ،
تتأملُ في روحٍ عاشرتها،
روح عاتِمة شبيهة الظلام،
هُنا جاءت الشفتان لتأذن بالكلام،
لتنادي، لتُعاودَ النطق بعد شوقٍ كبير،
فجأة تنقَطع آلة الزمن،
ترجِعُ العيونُ إلى واقعها،
مع الخيالِ الذي رافقَها،
عادَت خائبة منكسِرة،
سافرت معَ الذكرىَ بحسنٍ ظنٍ منها،
لعلّها تُصلح سلسالَ الزمنِ الذي اِلتوى،
تأمّلتْ مكانها ومن حولها،
أدركت جشعها وأنانيتها،
فقد استحْوذت كل المشاعر،
وأغلقت باب العقلِ،
وأشعلَت الخُرافات الكاذِبة،
والأحلام المستحيلة،
لا الشفتان نطقَت،ولا اليد تربّعت،
لا القلبُ ولا العقلُ صحى،
لم تجِد سوى دموعٍ تختِمُ بها،
لتُقسِمَ بعدها بعدم فتحِ الذكرى،
تلكَ الذكرى المرّة الغضّة،
ولنْ تَعودَ للتفكيرِ بالمرامِ المستحيل،
فتحت أجفانَها المبلّلة،
وجعلت من الذكرى سراباً،
ثمّ أذِنت لباقي أترابِها،
وأيقَنت بضرورةِ هدمِ الحائط،
لِتُعودَ للواقِع وتُكملُ المسير!
فرح بنت عبدالله المعولية