ليلي فوهر
كانت الجهود الحثيثة الرامية إلى بناء "اقتصاد أخضر" قادر على تخليص العالَم من الأزمات البيئية والاقتصادية المستمرة والإيذان بدخول حقبة جديدة من النمو المستدام تستجمع القوة في السنوات الأخيرة. ولكن هذه الجهود كانت مصدرا لجدال غير متوقع، مع تكهن كثيرين بما لا يزيد إلا قليلا عن العودة إلى العمل على النحو المعتاد مع طبقة من طلاء أخضر. فهل يكون التوفيق بين الضرورات البيئية والاقتصادية أصعب مما نعتقد؟
باختصار شديد، أجل. يتلخص التصور السائد في أن الاقتصاد الأخضر قادر على تمكيننا من التحرر من اعتمادنا على الوقود الأحفوري، من دون التضحية بالنمو. ويزعم كثيرون أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر من شأنه حتى أن يحفز نموا جديدا. ولكن على الرغم من جاذبية هذه الفكرة، فإنها غير واقعية، كما نبين في كتابنا الجديد "داخل الاقتصاد الأخضر".
من المؤكد أن الاقتصاد "الأخضر" الحقيقي من الممكن أن يزدهر. ولكن النموذج السائد اليوم يركز على الحلول السريعة السهلة. وهو علاوة على ذلك يؤكد من جديد على أولوية الاقتصاد، فيفشل بالتالي في إدراك مدى عمق التحول المطلوب.
وبدلا من إعادة النظر في اقتصاداتنا بهدف تكييف أدائها مع الحدود والضرورات البيئية، يسعى الاقتصاد الأخضر اليوم إلى إعادة تعريف الطبيعة من أجل تكييفها مع الأنظمة الاقتصادية القائمة. فنحن الآن نضفي قيمة نقدية على الطبيعة ونضيفها إلى دفاتر ميزانياتنا العمومية، مع حماية "رأس المال الطبيعي"، مثل خدمات النظم الإيكولوجية، التي تعمل على التعويض عن التدهور البيئي، قياسا بالعملة المجردة العالمية لمقاييس الكربون. وتجسد هذا الاتجاه الآليات القائمة على السوق، مثل تداول أرصدة التنوع البيولوجي. ولا شيء من هذا يمنع تدمير الطبيعة؛ بل يعيد ببساطة تنظيم عملية التدمير بما يتفق مع قواعد السوق.
ونتيجة لهذا النهج الذي يتسم بضيق الأفق، تشوب المفاهيم الحالية للاقتصاد الأخضر بقع عمياء كثيرة حتى بات لزاما علينا أن ننظر إلى المؤسسة بأكملها باعتبارها مسألة إيمانية. وتتمثل التعويذة الأقوى في الإبداع التكنولوجي، الذي يبرر ببساطة انتظار ظهور اختراع يعالج كل شيء. ولكن برغم أن الأفكار والإبداعات الجديدة تشكل أهمية بالغة لمعالجة التحديات المعقدة، البيئية وغير البيئية، فإنها ليست تلقائية ولا حتمية.
إن الإبداع، وخاصة الإبداع التكنولوجي، يتشكل دائما بفِعل مصالح وأنشطة أبطاله، ولهذا ينبغي الحكم عليه في سياقه الاجتماعي والثقافي والبيئي. وإذا لم تناصر القوى المعنية بالأمر التكنولوجيات التحويلية، فمن الممكن أن تعمل نتائج الإبداع على تعزيز الوضع الراهن، غالبا من خلال تمديد حياة منتجات وأنظمة غير صالحة لتلبية احتياجات المجتمع.
لنتأمل هنا صناعة السيارات. برغم أن هذه الصناعة تنتج محركات تتسم بالكفاءة في استهلاك الوقود على نحو متزايد، فإنها تضع هذه المحركات في مركبات أكبر حجما وأكثر قوة ووزنا من أي وقت مضى، وهذا من شأنه أن يهدر مكاسب الكفاءة من خلال ما يسمى "تأثير الارتداد". وهي عُرضة لإغراء إنفاق قدر من الطاقة لإتقان أصول التلاعب بقراءات الانبعاثات، كما فعلت شركة فولكس فاجن، أكبر من ذلك الذي تنفقه على تطوير مركبات "خضراء" حقيقية.
والوقود الحيوي ليس الحل أيضا. بل إن استخدام الوقود الحيوي من شأنه أن يحدث دمارا بيئيا واجتماعيا في الاقتصادات النامية، في حين يعمل بحكم الأمر الواقع على تمديد عمر تكنولوجيا الاحتراق الداخلي التي عفا عليها الزمن.
من الواضح أن صناعة السيارات من غير الممكن أن تكون موضع ثقة عمياء في ما يتصل بقيادة عملية إعادة التنظيم الجذري، بعيدا عن السيارات الخاصة المطلوبة في قطاع النقل. وهذا هو المقصد على وجه التحديد. فإذا كان لنا أن نفصل النمو الاقتصادي عن استهلاك الطاقة وأن نحقق كفاءة استخدام الموارد في عالَم يسكنه تسعة مليارات من البشر، ناهيك عن ضمان العدالة للجميع، فلا يمكننا أن نسمح للاقتصاد بقيادة الطريق. بل يتعين علينا بدلا من ذلك أن ننظر إلى التحول الأخضر باعتباره مهمة سياسية. فالنهج السياسي وحده القادر على إدارة الاختلافات في الرأي والمصالح، من خلال مؤسسات تمثيلية حقيقية، بالاسترشاد بذلك النوع من المناقشة المفتوحة التي تشرك المجتمع المدني الذي يشكل أهمية بالغة للديمقراطية التعددية.
تتولى رئاسة قسم البيئة والتنمية المستدامة في مؤسسة هاينريش بول.