زاهي وهبي
لا يحيط امرئ مهما بلغ من العلم والمعرفة بحقيقة ما يجري في هذا الجزء من العالم حيث شاءت أقدارنا أن نكون، ولا بمقدار خطورته، ليس فقط على بلداننا ومجتمعاتنا بل على العالم أجمع.
لسنا ممن يعلِّقون كل أمر على مشجب المؤامرة، لكن الساذج فقط مَن يعتقد بأن الانفجار الهائل الذي بدأ منذ العام ٢٠١١ قد انطلق بشكل تلقائي وعفوي بعيداً عن الدوائر المغلقة والغرف السرية، أو مَن يظن أن القوى العظمى (وجُلُّها يملك تاريخاً استعمارياً حافلاً بالجرائم والفظاعات) داعية حرية وديمقراطية، أو أنها جمعيات خيرية إنسانية تهوى مدَّ يد العون لهذا الشعب أو ذاك.
لِننظر إلى حال الدول التي جاءتها أميركا والحلف الأطلسي تحت شعارات نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، من أفغانستان إلى العراق وصولاً إلى ليبيا، نعرف ساعتها حقيقة القوى الكبرى ومدى أخلاقياتها في التعامل مع الشعوب المغلوبة، ولأن ثمة مَن لم يتعلم من الأمثولات السابقة سَهُل على أصحاب المصالح والمطامع إغراق سوريا واليمن في دوامة الصراع الدموي الذي لا تبدو في الأفق نهايات سارّة له. ففي الاحتراب الداخلي؛ المهزوم خاسر، والمنتصر خاسر، ولعل الرابح الوحيد هو تلك القوى المحركة للصراعات والتي تبثّ بذور الفتن والشقاق المذهبي والمجتمعي كي لا تقوم لبلداننا قائمة.
لماذا تتعرض أوطاننا لكل هذه الهجمة الشرسة؟ لأن الحاضر لا ينفصل عن الفائت. ينبغي علينا قراءة التاريخ جيداً لنتأكد أن القوى الاستعمارية التي فتتت بلادنا ورسمت خرائطها وحدودها لحظة سقوط الدولة العثمانية، وجعلتها في صراع الهويات المميتة دولاً تتغنى إنشائيا بالوحدة والتلاقي وتتصارع بضراوة من تحت الطاولة، هي نفسها التي تحاول اليوم فرض خرائط نفوذ جديدة، خرائط تُرسَم للأسف بدماء الناس، وتدمر مقدرات الشعوب والأوطان، وتشغل الجميع عن قضية فلسطين وهي الجرح العربي الأقدم والأعمق، وتشتت الانتباه عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي اليومية بحق أبناء فلسطين، فيما أبناء العراق وسوريا واليمن وليبيا يغرقون بدمائهم، وبقية البلدان العربية مشغولة بدرء الفتن والإرهاب الذي يطل برأسه من الباب والشبّاك معاً.
تغرق الشعوب بدمائها والأوطان بخرابها، فيما بعض المجانين من مغسولي الدماغ يظنون أن الطريق إلى الجنة يمر عبر تفجير أنفسهم بالأبرياء هنا وهناك، من الكرّادة في بغداد مروراً ببرج البراجنة في بيروت وصولاً إلى باريس وبروكسل ونيس. يكون المرء مغفلاً حقاً إذا أعتقد أن "داعش" مجرد تنظيم إرهابي استطاع السيطرة على مساحات من سوريا والعراق وليبيا تعادل مساحة فرنسا وتزيد. قطعاً ثمة أيادٍ استخباراتية كبيرة وقادرة تدير هذا التنظيم المتوحش وتستغل المهابيل الطامعين بالجنة والحور العين، لكن السؤال الملحّ الآن هو لماذا يسهل على القوى الطامعة تاريخياً بثرواتنا وخيراتنا منذ الحروب الصليبية إلى يومنا، إيجاد التربة الخصبة لإثارة النعرات والفتن وجذب آلاف الشباب إلى أتون العنف والتطرف والتخلف؟
كتبنا مراراً وتكراراً عن مسؤولية الأنظمة والحكومات عن الواقع المتهرئ بفعل الاستبداد والفساد والقمع والمحسوبيات، وكذلك مسؤولية القوى السياسية الموالية والمعارضة على اختلاف تلاوينها وتوجهاتها وعجزها عن تحقيق مشاريع تنموية تنقذ الشباب العربي من براثن الفقر والجهل والبطالة، وما نود التوقف عنده الآن هو تلك القابلية السريعة لدى شرائح واسعة من الشباب للانخراط في تيارات التخلف والتطرف إلى حد التضحية بالذات تفجيراً وانتحاراً، وربطها بضرورة التجديد في الفقه والفكر الإسلاميين بحيث لا يعود في وسع الأيدي العابثة غسل العقول بِيُسر وسهولة.
التجديد العاجل مُلِحٌّ وضروري ليس فقط لأجل شعوبنا وأوطاننا، بل لأجل الإسلام نفسه الذي تتهشم صورته لدى الآخرين أكثر فأكثر كلما ارتكب أحمق عملاً إرهابيا في هذه المدينة أو تلك من مدن العالم، حتى باتت عبارة "الله أكبر" تثير الرعب والهلع في نفوس كثيرين وترتبط، للأسف، بجرائم القتل والذبح.
التجديد في الفقه والفكر الإسلاميين ضرورة عاجلة وقصوى لا مفر منها ولا مناص، بغير ذلك سنظل ندور في الحلقة المفرغة ونعيد كل بضعة عقود المأساة نفسها.
الذين فسَّروا النصَّ القرآني في الماضي، على اختلاف مذاهبهم الفقهية، بشرٌ مثلنا، لذا لا ضير ولا غضاضة في تفاسير جديدة، القرآن الكريم نفسه دعانا جميعاً إلى تدبُّرِهِ والتفكر فيه، ولنقلها صراحة.. ما يستند إليه أصحاب الفكر الإرهابي المتطرف والدعاة الغلاة ليس إسلام القرآن والسنّة، بل إسلام المفسرين الذين جعلوا التأويل في منزلة الأصل نفسه وَيَا لها من فداحة.
تَرِدُ في القرآن الكريم مفردة الرحمة ٢٨٦ مرة، والرحيم ١١٥مرة، والحُبّ ٧٦ مرة، والسلام ٥٠ مرة، والعدل ومرادفاتها أكثر من ٥٠، والعقل والنور ٤٩ مرة لكلٍّ منهما. لا نعدد هذه المفردات لِسببٍ رياضي أو حسابي ولا بحثاً عن مكامن إعجازِ لا شك فيه، بل لنؤكد أن ديننا الحنيف هو حقاً دين حب وتسامح ورحمة، وليس دين قتل.
التشديد على ما يدعو إليه النص القرآني من رحمة وحُبّ وسلام وعدل وإنصاف، والتأكيد على ضرورة إعمال العقل والبحث عن مكامن النور، هدفهما البحث عن مكامن الخلاص، لأن لا خلاص لهذه الأمة في هذه المرحلة من تاريخها إلا من داخل النص نفسه.
ألم يقل في الحديث الشريف "هدم الكعبة سبعين مرة حجرا حجرا أهون عند الله من سفك دم امرئ بريء"؟ هذا هو الإسلام الذي ننشده ونبحث عنه. فمتى يتصدى المفكرون الفقهاء لهذه المهمة الواجبة كمدخل ضروري ولا بد منه في مشوار الألف ميل نحو تغليب الجانب الروحي الإيماني على الجانب الطقوسي، وجعل العلاقة مع الله عز وجل علاقة خاصة وفردية في منأى عن استغلالها القاتل من قبل فقهاء الظلام ودعاة التكفير والإرهاب.
لا نقول إننا متى فعلنا ما ندعو إليه سوف تتوقف مطامع القوى العظمى أو سعيها الدؤوب لإبقائنا في مصاف الدول المتخلفة. فهذا السعي جزء من تكوينها الامبريالي، لكننا بحداثة التفسير وعصرنته نحصِّن عقولنا ومجتمعاتنا وشبابنا فلا يعودون مطية سهلة ولقمة سائغة بين أشداق الظلام.
بين ظلم الأنظمة وظلام التكفير لا بد من بصيص ضوء، ولا ضوء بغير استخدام العقل وتنقيته من الشوائب والصدأ.
أين فقهاء النور؟