وجه نظر رأس المال البشري.. الإستثمار الأهم لضمان المستقبل

مؤشر الأربعاء ١٣/يوليو/٢٠١٦ ٢٢:١٠ م
وجه نظر
رأس المال البشري.. الإستثمار الأهم لضمان المستقبل

د.محمد رياض حمزة

سجل تاريخ المجتمع البشري أن أفضل الأمم تلك التي تستثمر كل ما لديها في حاضرها لضمان مستقبلها، وتأكد أن كل الثروات المادية إما أن تكون متناقصة المنفعة بتقادم الزمن أو أنها ناضبة، إلا الموارد البشرية فإنها المتجددة وإنها العامل الأساس في التقدم الذي تحقق لعدد من الأمم في العلم والاقتصاد فغدت شعوبها مرفهة آمنة، كما أن منجزاتها في العلوم والصحة والتعليم يسرتها للبشرية كافة.
ويجمع المهتمون من المحللين والكتاب في الاقتصاد والسياسة أن العامل الأقوى الذي ساهم بشكل مباشر في تحقيق المعجزة الاقتصادية اليابانية يتمثل في الاستخدام الأمثل لرأس المال البشري بقطاعي الأعمال والتعليم والتدريب، في بلد تندر فيه الموارد الطبيعية عدا المياه. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، عمل القطاع الصناعي ومعظم الشركات الإنتاجية والخدمية على تجنيد وتأهيل عشرات الملايين من العاملين في المصانع والموظفين بالمكاتب الذين تفانوا في أدائهم وصولا لأعلى إنتاجية يحققها العنصر البشري في العمل، مدفوعين بالولاء لوطنهم وإعادة بناء ما دمرته الحرب. كما حرصت إدارات الشركات على توفير بيئة عمل تحث على تحقيق أعلى إنتاجية مع علاقات إنسانية مستقرة. وتعتبر الموارد البشرية العنصر الأهم في بنية الشركات اليابانية ونموها وقدرتها التنافسية، لذلك أولت الشركات اهتماماً بالغاً لعملية اختيار وتدريب موظفيها الجدد ومواصلة تدريب موظفيها القدامى بهدف التحديث والمواكبة، بالاعتماد على المؤسسات التعليمية (جامعات وكليات متخصصة) ومراكز التدريب الخاصة بها، وكان ذلك توجها استراتيجيا وليس لسد حاجات آنية من العنصر البشري، ولكن لخطط توظيف مستقبلية.
لذلك طورت الشركات اليابانية نظام التوظيف مدى الحياة (Life Employment System)، حيث يقضي الموظف طوال سنوات عمره العملية في شركة واحدة ليصبح هذا النظام تقليداً اقتصادياً واجتماعياً راسخاً فيما بعد، الأمر الذي أمن استقرار وديمومة العمل في الشركات وجنبها الخسائر الناتجة عن منازعات العمل.
وتمكنت الحكومات اليابانية المتعاقبة من غرس الولاء والمواطنة بين القوى العاملة بالتذكير بأن اليابان بلد تندر فيه الموارد الطبيعية وأن الأمن القومي يتعرض للخطر في الظروف الطبيعية المحتملة من زلازل وبراكين ومد بحري غامر، لذا وجب استقرار العمل وأن الخلافات تحل بالتفاوض.
ولعل هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وتعرض مدينتيها الصناعيتين هيروشيما وناكزاكي للقنبلتين الذريتين الأميركيتين جعلت المجتمع الياباني يعيد ترتيب أولوياته ويتواضع عن كبريائه ويسخر جل طاقاته لتحويل الهزيمة إلى قوة دفع للحاق بركب الدول الغربية اقتصادياً وتقنياً من خلال الاستثمار المكثف في الموارد البشرية.
ونظراً لندرة القوى العاملة الماهرة بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان، حرصت الحكومة اليابانية والشركات على التركيز على التعليم واستقطاب وتدريب خريجي الجامعات وذلك لقدرتهم على تكوين علاقات عمل ناجحة.
ومن أساليب التأهيل للموارد البشرية وفي حال اختيار الموظفين الجدد، تعمل الشركات اليابانية فوراً على إخضاع كل موظف لسلسلة من برامج تدريب مستمرة على رأس العمل بإشراف مباشر من الكوادر الأكثر خبرة مع تدويره على جميع الأقسام حتى يلم بمهام الشركة مما يعزز إيمانه برسالتها وولائه لها.
وبما أن الشركة تتحمل تبعات التأهيل دون استفادة حقيقية من المستجدين لعدة سنوات، فإنها حريصة على الاحتفاظ بموظفيها حتى سن التقاعد، لذلك ابتدعت الشركات اليابانية أنظمة تخصصية للتدريب والترقيات والتقاعد، فلم يكن من السهل على الموظف التضحية بمكتسبات حياتية أن يعطل العمل بالإضراب أو ينتقل للعمل بشركة أخرى.
وتميزت القوى العاملة اليابانية بارتفاع إنتاجيتها مما أعطى منتجاتها الصناعية ميزة تنافسية مع المنتجات الأوروبية والأميركية وذلك بفضل مناهج التعليم التي غرست روح المثابرة والجدية وحب العمل إلى جانب التزود بالمعارف العلمية.
كما أن هناك أعراف عمل وتقاليد اجتماعية وراء حرص الشركات على الاحتفاظ بموظفيها والاهتمام بأدق شؤونهم العملية والخاصة، حيث أن صورتها الذهنية لدى الرأي العام تعتمد على موقفها من العاملين فيها، فأكثر الشركات نجاحاً في اليابان ليست الأكثر نمواً وأرباحاً، بل الأكثر قدرةً على توفير الاستقرار الوظيفي لكوادرها ومعاملتهم كشركاء والاهتمام بهم وبأسرهم، الأمر الذي وثق ولاء القوى العاملة للمؤسسات التي يعملون فيها وعزز إنتاجيتهم.

وزارة القوى العاملة