المستقبل بعد بريطانيا

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٣/يوليو/٢٠١٦ ٠٩:٢٠ ص
المستقبل بعد بريطانيا

جوزيف ستيجليتز

يبدو أن هضم واستيعاب العواقب الكاملة للاستفتاء في المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي سوف يستغرق في بريطانيا وأوروبا والعالم وقتا طويلا. وبطبيعة الحال، سوف تتوقف العواقب الأكثر عمقا على استجابة الاتحاد الأوروبي لانسحاب المملكة المتحدة. افترض أغلب الناس في مستهل الأمر أن الاتحاد الأوروبي "لن يلحق الأذى بنفسه للانتقام من غريمه": فالطلاق الودي يبدو في مصلحة الجميع على أية حال. ولكن الطلاق ــ كما يحدث كثيرا ــ قد يصبح قذرا وفوضويا.
الواقع أن فوائد التكامل التجاري والاقتصادي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي متبادلة، وإذا تعامل الاتحاد الأوروبي بجدية مع اعتقاده بأن التكامل الاقتصادي الأوثق أفضل للجميع، فسوف يسعى قادته إلى ضمان أوثق الروابط الممكنة في ظل الظروف الجديدة. ولكن جان كلود يونكر، مهندس المخططات الضخمة التي ساعدت لوكسمبورج في التهرب من سداد ضريبة الشركات ورئيس المفوضية الأوروبية الآن، يتخذ موقفا متشددا، فيقول: "الخروج يعني الخروج".
ربما تكون ردة الفعل التلقائية هذه مفهومة، خاصة وأن يونكر ربما يتذكره التاريخ بوصفه الشخص الذي ترأس المرحلة الأولية من انحلال الاتحاد الأوروبي. فهو يزعم أن الاتحاد الأوروبي لابد أن يكون مستبدا متصلبا لردع دول أخرى عن الانسحاب، فلا يقدم للمملكة المتحدة إلا ما يزيد قليلا عن ما تضمنه لها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
بعبارة أخرى، لا ينبغي للفوائد التي تقدمها أوروبا، والتي تتجاوز التكاليف كثيرا، أن تكون هي التي تمسك أجزاءها معا. ووفقا ليونكر فإن الرخاء الاقتصادي، والشعور بالتضامن، والفخر بكون المرء أوروبيا لا يكفي. بل ينبغي أن تضطر أوروبا إلى التماسك بفِعل التهديدات والترهيب والخوف.
بيد أن هذا الموقف يتجاهل درسا ملموسا في كل من التصويت على الخروج البريطاني والانتخابات الأولية للحزب الجمهوري في أميركا: ومفاده أن أحوال قسم كبير من السكان لم تكن على ما يرام. فربما كانت الأجندة النيوليبرالية طوال العقود الأربعة الفائتة مفيدة لأعلى 1% دخلا بين السكان، ولكن ليس لبقيتهم. وقد توقعت لفترة طويلة أن يفضي هذا الركود ذات يوم إلى عواقب سياسية. والآن حل ذلك اليوم علينا.
على جانبي المحيط الأطلسي، يعتبر المواطنون الاتفاقيات التجارية مصدرا لمحنتهم. ورغم ما ينطوي عليه هذا من إفراط في التبسيط، فهو موقف مفهوم. ذلك أن التفاوض على اتفاقيات التجارة اليوم يجري سرا، مع تمثيل مصالح الشركات بقوة، في حين يُستَبعَد المواطنون العاديون تماما من الأمر. وليس من المستغرب أن تأتي النتائج أحادية الجانب: مع تزايد ضعف الموقف التفاوضي للعمال، وهو ما يضاعف بدوره من تأثير التشريعات التي تقوض قوة النقابات وحقوق الموظفين.
وفي حين لعبت اتفاقيات التجارة دورا في خلق ها التفاوت، فإن عوامل أخرى كثيرة اسهمت في إمالة التوازن السياسي نحو رأس المال. فقد عملت قواعد الملكية الفكرية على سبيل المثال على زيادة قوة شركات الأدوية في ما يتصل برفع الأسعار. ولكن أي زيادة في قوة أسواق الشركات تعمل بحكم الأمر الواقع على خفض الأجور الحقيقية ــ وهي الزيادة في مستوى التفاوت وعدم المساواة التي أصبحت السمة المميزة لأغلب الدول المتقدمة اليوم.
في العديد من القطاعات، يتجه التركيز الصناعي نحو الازدياد ــ وكذلك قوة السوق. وقد اقترنت التأثيرات المترتبة على ركود وانحدار الأجور الحقيقية بالتأثيرات التي خلفتها سياسات التقشف، لكي تهدد بخفض الخدمات العامة التي يعتمد عليها كثيرون من ذوي الدخول المتوسطة والمنخفضة.
وعندما اقترنت حالة عدم اليقين الاقتصادي الناجمة عن هذا بين العمال بالهجرة، كانت النتيجة سامة. ولأن العديد من اللاجئين كانوا ضحايا القمع والحروب التي ساهم الغرب فيها، فإن تقديم المساعدة يُعَد مسؤولية أخلاقية يتحملها الجميع، ولكن بشكل خاص القوى الاستعمارية السابقة.
مع هذا، ورغم إنكار كثيرين، فإن الزيادة في المعروض من العمالة المنخفضة المهارة تؤدي إلى أجور توازن أدنى ــ ما دامت منحنيات الطلب المنحدرة قائمة بشكل طبيعي. وعندما يصبح من غير الممكن خفض الأجور، ترتفع معدلات البطالة. وهو الأمر الأكثر إزعاجا في الدول حيث أفضى سوء الإدارة الاقتصادية بالفعل إلى مستوى مرتفع من البطالة الشاملة. وكانت أوروبا، وخاصة منطقة اليورو، عُرضة لقدر عظيم من سوء الإدارة في العقود الأخيرة، إلى الحد الذي جعل متوسط معدلات البطالة هناك يرتفع إلى خانة العشرات.
الواقع أن الهجرة الحرة داخل أوروبا تعني أن الدول التي كانت أكثر نجاحا في الحد من البطالة تنتهي بها الحال كما هو متوقع إلى استقبال حصة أكبر من نصيبها العادل من اللاجئين. ويتحمل العاملون في هذه الدول التكلفة بفِعل ركود الأجور وارتفاع معدلات البطالة، في حين يستفيد أصحاب العمل من العمالة الأرخص. ومن غير المستغرب أن يقع عبء اللاجئين على عاتق أولئك الأقل قدرة على تحمله.
هناك بطبيعة الحال الكثير من الأحاديث عن الفوائد الصافية المترتبة على الهجرة إلى الداخل. وقد تكون هذه هي الحال في دولة توفر مستوى منخفضا من الفوائد المضمونة ــ الحماية الاجتماعية، والتعليم، والرعاية الصحية، وما إلى ذلك ــ لكل مواطنيها. ولكن في الدول التي توفر شبكة أمان اجتماعي لائقة، يصبح العكس هو الصحيح.
كانت نتيجة كل هذه الضغوط النزولية على الأجور فضلا عن خفض الخدمات العامة متمثلة في استئصال الطبقة المتوسطة، مع تماثل العواقب على جانبي المحيط الأطلسي. ولم تتلق الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة فوائد النمو الاقتصادي. وهي تدرك أن البنوك كانت السبب وراء اندلاع أزمة 2008؛ ولكنها بعد ذلك رأت كيف ذهبت المليارات لإنقاذ البنوك، في حين كانت المبالغ المخصصة لإنقاذ مساكنهم ووظائفهم تافهة. ولا ينبغي لنا أن نندهش إزاء غضب الناخبين إذا علمنا أن الدخل الحقيقي المتوسط (المعدل تبعا للتضخم) للعامل الذكر الذي يعمل بدوام كامل في الولايات المتحدة انخفض إلى مستوى أدنى مما كان عليه قبل أربعين عاما.
علاوة على ذلك، لم يحقق الساسة الذين وعدوا بالتغيير ما كان متوقعا منهم. وكان المواطنون العاديون يعلمون أن النظام غير عادل، ولكنهم أدركوا حجم التلاعب والزيف الذي فاق كل تصوراتهم، ففقدوا ما تبقى لديهم من ثقة في قدرة ساسة المؤسسة أو رغبتهم في تصحيح هذا الوضع. وهذا أيضا مفهوم: فقد اشترك الساسة الجدد في نفس التوقعات مع أولئك الذين وعدوا بأن العولمة ستعود بالفوائد على الجميع.
بيد أن التصويت الغاضب لا يحل المشاكل، وقد يجلب موقفا سياسيا واقتصاديا أسوأ. ويصدق الشيء نفسه على الاستجابة للتصويت بالغضب.
إن التغاضي عما سَلَف من المبادئ الأساسية في الاقتصاد. ولابد من توجيه السياسة على ضفتي القنال الإنجليزي الآن نحو فهم الكيفية التي تسنى بها لمؤسسة سياسية في نظام ديمقراطي أن تفعل أقل القليل لمعالجة مخاوف العديد من المواطنين. والآن يتعين على كل حكومة في الاتحاد الأوروبي أن تنظر إلى تحسين رفاهة المواطنين العاديين باعتباره هدفها الأساسي. ولن يفيد المزيد من الإيديولوجية النيوليبرالية. كما ينبغي لنا أن نكف عن الخلط بين الغايات والوسائل: على سبيل المثال، إذا أديرت التجارة الحرة على النحو اللائق، فربما تجلب قدرا أعظم من الرخاء المشترك، أما إذا لم تكن إدارتها جيدة فسوف تفضي إلى انخفاض مستويات معيشة كثير من المواطنين، وربما غالبيتهم.
هناك بدائل للترتيبات النيوليبرالية الحالية قادرة على خلق الرخاء المشترك، بقدر ما توجد بدائل ربما تجلب قدرا أعظم من الضرر ــ مثل اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي التي اقترحها الرئيس الأميركي باراك أوباما مع الاتحاد الأوروبي. ويتمثل التحدي اليوم في التعلم من الماضي حتى يتسنى لنا احتضان البدائل النافعة وتجنب البدائل الضارة.

حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا،