جذور انعدام الثقة في الشرق الأوسط

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/يوليو/٢٠١٦ ٠٦:٥٣ ص
جذور انعدام الثقة في الشرق الأوسط

تيمور كوران

من الصعب أن يَغفَل المرء عن إدراك حالة انعدام الثقة التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط. وكما تؤكد التجارب المنضبطة ذات الشواهد فإن العرب يثقون في الغرباء، الأجانب أو المحليين، بدرجة أقل كثيرا، مقارنة بالأوروبيين على سبيل المثال. وهذا من شأنه أن يعوق التقدم على العديد من الجبهات، من تطوير الأعمال إلى الإصلاحات الحكومية.

تساهم المجتمعات التي تتسم بانخفاض مستويات الثقة بقدر أقل إلى حد غير متناسب في التجارة الدولية، وتجتذب قدرا أقل من الاستثمار. ووفقا لتقرير القيم العالمية والأبحاث ذات الصِلة، تتدنى مستويات الثقة بين الأفراد في الشرق الأوسط بالقدر الكافي لجعل المعاملات التجارية مقتصرة على أشخاص يعرفون بعضهم بعضا إما بشكل شخصي أو من خلال المعارف المشتركة. وبسبب افتقارهم إلى الثقة، يهدر العرب غالبا فرصا مربحة محتملة للكسب من خلال التبادل.

وعلى نحو مماثل، يميل العرب في تعاملاتهم مع المؤسسات العامة إلى طلب وساطة فرد يربطهم به شكل من أشكال الاتصال الشخصي. وتشمل العواقب المترتبة على هذا أنماطا من عدم العدالة في ما يمكن أن يتوقعه الناس من مثل هذه المؤسسات. وهذا كفيل بتقويض فعاليتها. من الواضح أن هناك حاجة إلى معالجة عجز الثقة في الشرق الأوسط. وتتمثل الخطوة الأولى نحو تحقيق هذه الغاية في فهم أسباب هذا العجز.
يكمن دليل ربما يكون مهما في الفارق بين تصورات ومدركات المسلمين والمسيحيين. بطبيعة الحال، لا توجد بيانات رسمية تقيس هذا العجز كميا؛ ففي أغلب أجزاء الشرق الأوسط، يشكل المسيحيون المتبقون قِلة قليلة إلى الحد الذي لا يسمح بعقد مقارنات إحصائية ذات مغزى. بيد أن بعض الأدلة العارضة تشير إلى أن المتسوقين والتجار والمستثمرين يعتبرون المسيحيين المحليين في عموم الأمر أكثر جدارة بالثقة من المسلمين المحليين. ويضيفون: «هكذا كانت الحال دوما».

وربما يقدم عملي مع المؤرخ الاقتصادي جيراد روبن في استكشاف سجلات المحاكم الإسلامية في إسطنبول في القرنين السابع عشر والثامن عشر بعض السبل لفهم الأسباب وراء ذلك.

في ذلك الوقت كانت اسطنبول مدينة عالمية؛ فكان نحو 35 % من سكانها المحليين مسيحيين، وكان 6 % من اليهود. ووفقا للشريعة الإسلامية، كان لزاما على المسلمين القيام بأعمالهم التجارية وفقا لمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا أرادوا الفصل في نزاع ما، فكان عليهم استخدام المحاكم الإسلامية.

ومن جانبهم، كان بوسع المسيحيين واليهود أن يديروا أعمالهم بموجب قواعدهم الخاصة، وإن كانوا يتمتعون أيضا بمطلق الحرية في اتباع القواعد الإسلامية والتقاضي أمام المحاكم الإسلامية، إذا رغبوا في ذلك. ولكن بطبيعة الحال، إذا اشترك غير مسلم في قضية ضد مسلم، فكان لابد من نظرها أمام محكمة إسلامية.

عندما كان مسلم يواجه غير مسلم في محاكمة، كان المسلمون يتمتعون بمزايا مهمة. فأولا، كان تدريب القضاة يجعلهم أكثر ميلا إلى منح فائدة الشك إلى أخيهم المسلم. وثانيا، كان موظفو المحاكم بالكامل مسلمين، وهذا يعني أن الشهادة كانت تُنظَر من منظور إسلامي فحسب. وثالثا، في حين كان بوسع المسلمين أن يدلوا بشهادتهم ضد أي شخص، فإن المسيحيين واليهود لم يكن بوسعهم الشهادة إلا ضد غيرهم من غير المسلمين.
ولكن هذه المزايا لم تخل من جانب سلبي. فقد سَهَّل النظام القانوني على المسلمين انتهاك العقود والإفلات من العقاب، ولهذا كانوا أكثر ميلا إلى التخلف عن سداد ديونهم ونقض التزاماتهم كشركاء تجاريين وبائعين. وفي الوقت نفسه، اكتسب غير المسلمين، الذين كانت التزاماتهم تُفرَض عليهم بقدر أكبر من القوة، سمعة الأمانة والجدارة بالثقة.

وللتعويض عن الاختلافات في مستويات المخاطر المتصورة، كان المقرضون، وأغلبهم من المسلمين، يتقاضون نحو نقطتين مئويتين أقل كفوائد على الائتمان المقدم للمقترضين المسيحيين واليهود مما يتقاضونه من المسلمين (15 % سنويا، في مقابل 17 %).

ولهذا يبدو أن جذور تصورات الأمانة والجدارة بالثقة في العالم العربي تمتد، جزئيا على الأقل، إلى الإنفاذ غير المتكافئ للالتزامات بموجب الشريعة الإسلامية. ولكن لم تدم الفوارق الطائفية في الإنفاذ القانوني. ففي منتصف القرن التاسع عشر، أخلت المحاكم الإسلامية السبيل لمحاكم علمانية في الأساس، على الأقل في ما يتعلق بالتجارة والتمويل. وأصبح إنفاذ الالتزامات بعد ذلك أكثر توازنا.
منذ ذلك الوقت، تضاءلت بشكل كبير نسبة غير المسلمين في بلدان الشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة، بفِعل الهجرة والإحلال السكاني. ونتيجة لهذا، يتمتع قِلة من المسلمين في الشرق الأوسط بخبرة شخصية في إنجاز الأعمال مع غير المسلمين. ومع هذا فقد دام الانطباع بأن المسلمين أقل أمانة وجدارة بالثقة، وانتقل ذلك الانطباع من خلال الأسر والشبكات. كما ظلت باقية أيضا العادات القديمة المتمثلة في انتهاك العقود بشكل انتهازي في بعض الأماكن، الأمر الذي ساعد في تعزيز الصور النمطية الموروثة. وكان الميل إلى قصر المعاملات على الأصدقاء والمعارف استجابة طبيعية في بيئة تتسم بتدني مستوى الثقة.
من عجيب المفارقات أن هذه الصور النمطية الضارة نشأت من نظام قانوني يهدف صراحة إلى إعطاء المسلمين المهيمنين عسكريا وسياسيا ميزة في علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية مع المسيحيين واليهود. وبعيدا عن زيادة تكاليف المعاملات الاقتصادية بين المسلمين في ذلك الوقت، ساعدت القواعد التي كان المقصود منها الحد من الحرية الدينية -إنكار «اختيار القانون» على المسلمين والقيود المفروضة على شهادة غير المسلمين القضائية- في إيجاد ثقافة عدم الثقة التي تحد الآن من فرص التقدم في مجالات مختلفة. وبالتالي فقد أضعفت الشريعة الإسلامية المجتمعات الإسلامية التي كان المقصود منها حمايتها.
في وقت حيث تسعى حركات سياسية مختلفة إلى إعادة فرض الشريعة، تتزايد أكثر من أي وقت مضى أهمية إدراك الضرر الطويل الأمد الذي نجم عن القيام بذلك بالفعل. إن ما يحتاج إليه الشرق الأوسط اليوم ليس الشريعة الإسلامية، بل يحتاج إلى جهود واسعة النطاق لإعادة بناء الثقة بين المجتمعات وداخلها، وفي المنظمات الخاصة والحكومة. أما إحياء الشريعة الإسلامية فلن يُفضي إلا إلى تعميق عجز الثقة الذي يُعَد مصدرا رئيسيا للتخلف الاقتصادي الحالي والإخفاقات السياسية في الشرق الأوسط.

أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة ديوك