عودة إلى التفكير في الدخل الأساسي

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٤٣ ص
عودة إلى التفكير في الدخل الأساسي

روبرت سكيدلسكي

بريطانيا ليست الدولة الوحيدة التي عقدت استفتاء هذا الشهر. ففي الخامس من يونيو رَفَض الناخبون السويسريون بأغلبية ساحقة، 77% في مقابل 23%، اقتراحا يقضي بضمان دخل أساسي غير مشروط لكل مواطن. ولكن هذه النتيجة غير المتوازنة لا تعني أن هذه القضية قد تنتهي في أي وقت قريب.
الواقع أن فكرة الدخل الأساسي غير المشروط كانت تظهر بشكل متكرر في التاريخ ــ كانت البداية مع توماس باين في القرن الثامن العشر. ولكن من المرجح أن يطول أمد ظهورها هذه المرة، خاصة وقد أصبح حصول الفقراء والأقل تعليما على دخل كاف من الوظائف احتمالا متزايد الضآلة. وكانت التجارب على التحويلات النقدية غير المشروطة جارية في البلدان الفقيرة والغنية على حد سواء.
إن الدخل الأساسي غير المشروط مزيج غير مستقر إلى حد ما يجمع بين التخفيف من حِدة الفقر ورفض العمل بوصفه غاية أساسية في الحياة. والمكون الأول في هذا المزيج سياسي وعملي؛ أما الثاني فهو فلسفي أو أخلاقي.
كانت الحجة الرئيسية الدائمة لصالح الدخل الأساسي غير المشروط باعتباره وسيلة للتخفيف من وطأة الفقر هي عجز العمل المدفوع الأجر المتاح عن ضمان حياة آمنة ولائقة للجميع. ففي العصر الصناعي، أصبح العمل في المصانع المصدر الوحيد للدخل لأغلب الناس ــ وهو المصدر الذي كان متقطعا بفِعل نوبات من البطالة مع توقف الآلة الصناعية دوريا.
كان الهدف من رأسمالية الرفاهة الاجتماعية بوضوح تزويد الناس بالدخل ــ عادة من خلال التأمين الإلزامي المجمع ــ خلال فترات انقطاع العمل القسرية. ولم يُنظَر إلى إعالة الدخل باعتبارها بديلا للعمل بأي حال من الأحوال.
في ثمانينيات القرن العشرين، تسبب الرئيس الأميركي رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر عن غير قصد في توسيع نطاق الرعاية الاجتماعية بعد تفكيك المؤسسات والتشريعات المصممة لحماية الأجور والوظائف. ومع خضوع الأجور والوظائف لرحمة قوى السوق، أُدخِل نظام المزايا "على رأس العمل"، أو الإعفاءات الضريبية، لتمكين العمال الموظفين من كسب "أجر مناسب للحياة". ومن ناحية أخرى، بدأت الحكومات المحافظة، التي استبد بها القلق بسبب تزايد تكاليف الضمان الاجتماعي، تتجه إلى خفض مستحقات الضمان الاجتماعي.
في هذه البيئة غير المستقرة حديثا من العمل والضمان الاجتماعي، يُنظَر إلى الدخل الأساسي غير المشروط باعتباره ضامنا للدخل الأساسي الذي وعد به العمل والضمان الاجتماعي في السابق، ولكن لم يعد أي منهما قادرا على ضمانه على نحو جدير بالثقة.
أما الحجة الأخلاقية لصالح الدخل الأساسي غير المشروط فهي مختلفة. إذ يرجع مصدرها إلى فكرة واردة في الكتاب المقدس والاقتصاد الكلاسيكي، ومفادها أن العمل لعنة (أو على حد تعبير أهل الاقتصاد "تكلفة")، ولا يُزاوَل إلا لكسب العيش. ومع تسبب الإبداع التكنولوجي في ارتفاع نصيب الفرد في الدخل، يقل احتياج الناس إلى العمل لتلبية احتياجاتهم.
كان كل من جون ستيورات مِل وجون ماينارد كينز يتطلع إلى مستقبل يتسم بتزايد وقت الفراغ: إعادة توجيه الحياة بعيدا عن المفيد فحسب ونحو الجميل والصادق. ويوفر الدخل الأساسي غير المشروط مسارا عمليا للإبحار عبر الفترة الانتقالية.
الواقع أن أغلب العداء للدخل الأساسي غير المشروط يأتي عندما يُذكَر في هيئته الثانية هذه. فقد طَرَح مُلصَق دعائي خلال حملة الاستفتاء السويسري السؤال التالي: "ماذا كنت لتفعل إذا تولى غيرك أمر توفير الدخل لك؟" وكان اعتراض أغلب معارضي الدخل الأساسي غير المشروط أن غالبية الناس سيكون ردهم على هذا السؤال: "لا شيء على الإطلاق".
ولكن من الحماقة أخلاقيا أن نزعم أن الدخل المستقل عن سوق العمل من المحتم أن يكون مثبطا للعزائم، فهو ادعاء غير دقيق تاريخيا. ولو كان ذلك صحيحا، فإننا كنا لنرغب في إلغاء أي دخل موروث. كانت البرجوازية الأوروبية في القرن التاسع عشر تتألف إلى حد كبير من طبقة ريعية من ذوي الأملاك، ولم يشكك في جهدهم في العمل سوى قِلة من الناس.
كان انفجار الروبوتات سببا في تجدد الطلب على الدخل الأساسي غير المشروط. وتشير تقديرات جديرة بالثقة إلى إمكانية أتمتة ربع إلى ثلث كل الوظائف الحالية في العالم الغربي في غضون عشرين عاما. وهذا من شأنه أن يؤدي في أفضل تقدير إلى تسارع الاتجاه نحو عدم استقرار الوظائف والدخل، أو جعل حصة كبيرة من السكان زائدين عن الحاجة في أسوأ تقدير.
يتلخص اعتراض شائع على الدخل الأساسي غير المشروط كوسيلة للتعويض عن الدخل من الوظائف المتلاشية في كونه باهظ التكلفة إلى حد لا يمكن تحمله. ويعتمد هذا جزئيا على العوامل المتغيرة الضالعة في الأمر: مستوى الدخل الأساسي غير المشروط، وأي الفوائد قد يحل محلها (إن وُجِدَت)، وما إذا كان المواطنون فقط مؤهلين للحصول عليه أو كل المقيمين، وهلم جرا.
بيد أن هذه ليست النقطة الرئيسية. تشير الأدلة الدامغة إلى أن حصة الأسد في مكاسب الإنتاجية في السنوات الثلاثين الأخيرة ذهبت إلى فاحشي الثراء. وهذا ليس كل شيء: فقد ذهب نحو 40% من مكاسب التيسير الكمي في المملكة المتحدة إلى أغنى 5% من الأسر، ليس لأنهم الأكثر إنتاجية بل لأن بنك إنجلترا وجه أمواله النقدية نحوهم. والواقع أن أي تراجع ولو جزئي عن هذا الاتجاه الرجعي الطويل الأمد للثروة والدخل كفيل بتمويل دخل أساسي أولي متواضع.
وبعيدا عن هذا، يمكن تصميم الدخل الأساسي غير المشروط بحيث ينمو بما يتماشى مع ثروة الاقتصاد. فمن المحتم أن تعمل الأتمتة على زيادة الأرباح، لأن الآلات التي تجعل العمل البشري زائدا عن الحاجة لا تحتاج إلى أجور ولا تتطلب صيانتها سوى استثمارات بسيطة.
ما لم نغير نظام توليد الدخل فلن نجد أي وسيلة لضبط تركيز الثروة في أيدي الأثرياء والمغامرين من أصحاب المبادرة التجارية. والواقع أن الدخل الأساسي غير المشروط الذي ينمو بما يتماشى مع إنتاجية رأس المال من شأنه أن يضمن انتشار فوائد الأتمتة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وليس مجرد قِلة بسيطة.

روبرت سكيدلسكي عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.