مراجعات الذات

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٣٢ ص
مراجعات الذات

محمد بن سيف الرحبي
alrahby@gmail.com
www.facebook.com/msrahby

لو أننا نجلـــس إلـــى ذواتنا ساعة في اليوم لكسبنا معركتنا مــــع الحيــــاة بصورة أكثر إيجابيـــة بدلا مـــن هذا اللهاث العجيب، أو ذلك الالتهاء بعيدا عن هذه الـــذات التـــي تطالبنـــا بالاستماع إليها، ولو قليلا، بدلا مـــن الانشغال الدائم بملهيات الحياة، بخاصة في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، نعتني بالآخرين، نتواصل معهم معظم ساعات اليوم، ونحرم أنفسنا من نعيم الجلوس مع أنفسنا، بدلا من أن نعود إليها مرهقين فننام على وقع التعب.

ذاتنا تحتاجنا أكثر مما يحتاجنا أولئك الذين نخشى منهم إهمالا أو غدرا أو خذلانا. رائع أن يجلس المرء ليتحدث مع نفسه، يجادلها، يحاورها في محظورات وأسرار لا يمكنه فتح خزائنها أمام أنظار الآخرين، وتلصّصهم الدائم لمعرفة المزيد، والخشية الدائمة أن خزائنهم مثقوبة لا يستقر فيها ماء الأسرار.

يجلس (بعضنا) إلى ذاته ليعاتبها، يجلدها، يحمّلها الأخطاء.. كما يعمل البعض على (تجميل) كل فعل يأتيها، ذوات الآخرين هي سبب عثراته، وهي تلقي الأحجار إلى طريقه، وفي عرفنا المعاصر فإن كلمة (المسؤولين/‏ الكبار) الثقافة السائدة، تتعملق أمامهم كحائط منيع لا يمكن القفز عليه، أو رؤية ما خلفه، ربما تكون هناك ذواتهم تطلب منهم مواجهة حقيقية، أين هم من كل ما حدث ويحدث.. وسيحدث؟
أجد كثيرين يحتاجون إلى الجلوس مع ذواتهم لقول كلمة واحدة: أحبك، فتبدو الحياة أمامهم حالة حب خالصة، قادرة على احتواء البشر الآخرين، بدلا من تلك الجلسة الدائمة بعيدا عن الذات وهي تغرق في الماديات، والتفكير الذي يأخذ منحى نفعيا، أو أنها تنسى نبع الحياة الصافي لتغترف من الماء الضحل «كدرا وطينا» فتتكدس على الروح أثقال تنوء بها، ولا ترى الحياة أمامها إلا من منطلق الضبابية والرؤية المغبشة.
الحوار مع الذات هو فن الإنصات، الحوار بدون صوت، تقليب الفكرة على أوجه عدّة، دون شك أو هاجس قلق من آخر لا يستمع جيدا..
إنما من يعرف الطريق إلى حوار كهذا؟ حوار تأملي يكتسب عمقه الفلسفي مع جريان العادة، وفهم الذات بطريقة أفضل كلما سمعناها وتحدثنا إليها أكثر فأكثر.
من فينا يجد اللغة المناسبة ليتحدث مع ذاته؟ هي المشحونة بضغوط تحتاج من تفضفض إليه وتبوح بمكنونات بالغة السرية، بعيدا عن مخاوف الكلمات التي يتحسس منها (بعضهم) أو يأخذها إلى غير مآخذها..
هو الحوار الأصعب لأن الكلمات تأتي من ذات النبع.. ولا يوجد المغاير لتتواجه الأفكار وتتصادم، أو لا نرى العينين اللتين نقرأ فيهما صدى أصواتنا ونحن نتحدث إلى وجه نشعر أنه القادر على أن يكون الذات التي نريدها، توأم آخر يأتي من خلف الأشياء جميعها لينصت إلينا، فرحا أو حزنا، ضحكة أو بكاء.
أنصتوا لذواتكم، لا تتشاغلوا عنها بكل هذا الكم المريع من العبث الآتي من خلف الشاشات المضيئة، أو من تلك القلوب التي (أو نتصورها فقط).. معتمة.