نصال "الفقد"

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١١/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٤٣ ص

محمد بن سيف الرحبي

عشت خلال الأشهر القليلة الماضية مفردة الفقد لدى زملاء وأصدقاء مروا بتجربة رحيل "شريكة الحياة" في لحظة مؤلمة سبقتها، أو مهدت لها، لحظات كثيرة من الألم والمعاناة، وصولا إلى خاتمة بدت محكومة بالأمل رغم كل شيء.
قناعتي أن البيت الذي يغادره الرجل/ الزوج/ الأب قادر على مواصلة الحياة بشكل أفضل مما لو فقد المرأة/ الأم/ الزوجة، ولدي أسبابي في هذه القناعة المدعومة بأدلّة من الحياة، بيوت تزلزلت أركانها وتداعت حينما رحلت الإنسانة التي سيعرف الجميع قدرها أكثر حينما تباغتها النهاية، رغم أنها قدر لا راد لمروره، ولا يشبه فقدها خسارة أي شيء آخر من "زينة الحياة الدنيا"، مهما بدت الفجيعة موجعة حدّ انفطار القلب.
ثلاثة من الإخوة، وعلى فترات متقاربة، عزّيتهم في وفاة زوجاتهم، القاسم المشترك في النهايات مرض مزمن، فيغدو البيت حزنا مقيما يراقب الوجع ويترقب الأجل الذي يقرب حينا ويبعد أحيانا، وبين الأمل والخوف تستمر دورة الحياة داخل البيت بمعاناتها الواقفة كسكين حادة لا يدرك المرء متى تنغرس في القلب للمرة الأخيرة فتوقف نبضه.
إنما الشعراء يكتبون ألمهم فيشعروننا أكثر من غيرهم بحدّته، ينقلون أوجاعهم بالكلمات فيتوجع من يقرأهم كأنه يلامس سطح مأساتهم، هو التماس الروحي مع الحزن، الشرارة الكهربائية التي تطلقها دوائر الكلمات على وقع قصائدهم المتشظية.. هكذا تسلل إلي حزن الشاعر عبدالرزاق الربيعي راثيا زوجته التي رحلت بفعل مرض السرطان، كما هو ذلك الأسى العميق الذي انتقل إلى روحي حينما قرأت ديوان بلقيس للشاعر الراحل نزار قباني وهو يرثي زوجته إثر انفجار في بيروت، وكما بكت قصائد للمتنبي والجواهري وغيرهما ممن يرثون راحلين، يقتربون منهم رحما أو يبكونهم تأسّيا.
رغم أنه العيد إلا أن جيناتي ساقتني إلى دموع/ شموع الربيعي يوقدها نورا في عتمة قبر زوجته الراحلة، يضع على قبرها إكليلا/ "قليلا.. من كثير عزة" حيث "نصال الفقد، والسهد، والوجد" في كل صفحة من صفحات ديوانه الصادر مؤخرا، في أربعينية رحيلها، وقد تكرر الرحيل كثيرا في حياته، من شقيقه الذي أعدم في زمن صدام حسين، وأمه وأبيه وقد رحلا بعيدا عنه حيث عاش منفيا بمنأى عن وطنه، ووالديه.
أهدى الصديق عبدالرزاق الربيعي ديوانه إلى زوجته الراحلة "التي لم ترحل بعد، رغم التراب الفاصل" ما بين قلبه وبرجها في العامرات، حيث قبرها هناك، علما أنها توفيت بسرطان الرئة، فكانت قصيدته "خذي رئتي" فاصلا من التوجع:
خذي رئتي/ وطوفي بين أوردتي/ ونامي في ثنايا الروح/ واسترخي على شفتي..
خذي ضوئي/ وما أبقت لي الأيام/ من نزف بمحبرتي.
خذي رئتي/ خذي بدئي وآخرتي/ وسيري/ أينما شئت/ بروحي طوّفيها الكون/ من جهة إلى جهتي.
خذي لحني وقافيتي/ ونامي فوق راح النور/ دون شعور/ حين تغض/ عن لممي ملائكتي.
هكذا يعرف الشعراء كيف يرسمون بالدمع أحزانهم، ويكتبون بالحبر أساهم، وكيف يغدو الأصدقاء الفاقدون حكاية أخرى منقوشة بالوجع على أوراق أرواحنا، وهي تتساقط ورقة إثر أخرى، بسياط الخريف، أو بجريان العمر.