إدموند س. فيلبس
أفضت عقود من النمو البطيء مع الأزمة المالية لعام 2008 إلى تحول أشبه بالزلزال في الفكر الاقتصادي في كثير من دول العالم. ويتردد حديث عن نقل الموارد من مجال الاستثمار إلى الاستهلاك، ومن مجال الصناعات الثقيلة إلى "الخدمات"، ومن القطاع الخاص إلى القطاع العام. بيد أن الصادم في الأمر بالنسبة لي هو أن هذه الحجج إنما تركز فقط على تحسين مزيج المُخرجات داخل الاقتصاد، دون الاهتمام بالعمل.
ويبدو هذا واضحا في حالة الصين، وهي الآن وفق بعض التقديرات أكبر اقتصاد في العالم. ولا ريب أن على الصين الامتناع عن تخصيص مزيد من الاستثمارات في مصانع الصلب الثقيل والمباني السكنية الفارغة. وعليها في المقابل التركيز على العمال وعلى الارتقاء بخبرات عملهم، الأمر الذي وضعه الاقتصاديون في بؤرة اهتمامهم منذ آدم سميث وحتى كارل ماركس وألفريد مارشال.
في كتاب الازدهار الشامل أسعى للبرهنة على أن النموذج الصحيح هو الاقتصاد الجيد، أي الاقتصاد الذي يوفر حياة جيدة. والتوزيع الأمثل للموارد (وتعد الكفاءة جزءا منه) ضرورة، ولكنه ليس ملمحا كافيا للوفاء بشروط الاقتصاد الجيد. فعلى الأرجح في الواقع أن يؤدي تركيز قيادات الصين الثابت على رفع الاستهلاك المحلي إلى انصرافهم عن السياسات الأخرى اللازمة للاقتصاد الجيد.
وهنا أختلف في الرأي مع اقتصاديين كثيرين ــ بما في ذلك أصدقائي الأعزاء جوزيف ستيجلتزوجين-بول فيتوسيوفلاديمير كفنت ــ الذين تعد نوعية الحياة هي المعيار المفضل لديهم للحكم على الاقتصاد الجيد. وهم يشيرون بهذا أساسا إلى وفرة الاستهلاك ووفرة الراحة جنبا إلى جنب مع توفر الاحتياجات العامة ــ مثل الهواء النقي والطعام الآمن والشوارع الآمنة والمرافق المدنية مثل الحدائق المحلية والملاعب الرياضية.
إنها نسخة من مفهوم يعيدون إحياءه، مفهوم تعود أصوله إلى عصور قديمة. ولست أعارض هذه الخدمات ولا أعارض تقديم الدولة لها، ولكنها لا تضيف شيئا إلى مفهوم الفلاسفة عن "الحياة الجيدة". (قال أرسطو مازحا أننا بحاجة لهذه الخدمات لنسترد عافيتنا استعداد ليوم العمل التالي).
وأشار صديق عزيز آخر هو أمارتيا سين، إلى أن تركيز الاقتصاديين على الاستهلاك يُهمِل حاجة الناس إلى "عمل الأشياء". لكنه لم يذهب بالفكرة بعيدا بالقدر الكافي. إذا أن الناس تنصرف عن برامج العمل التي لا يملكون فيها من أمرهم شيئا.
فمن أجل حياة جيدة، يحتاج الناس إلى درجة من درجات القوة في عملهم، يريدون أن يكونوا قادرين على أخذ زمام المبادرة والقيام بعمل ممتع. ويقدر الناس منحهم مساحة للتعبير عن أنفسهم ــ للإعلان عن أفكارهم أو لإظهار مواهبهم.
بعبارة أخرى، يقدر الناس فكرة تحقيق الأهداف بجهودهم الذاتية. وفي كتابي استخدمتُ كلمة "ناجح" (من اللاتينية القديمة Prospere، بمعني على النحو المأمول، أو على النحو المتوقع) للإشارة إلى تجربة نجاح المرء في عمله: ذلك الرضا الذي يشعر به الحِرَفي حين يقدر الآخرون مهاراته، أو الارتياح الذي يشعر به التاجر حين يرى "نجاحه وتوفيق عمله"، أو شعور العالِم بالتحقق حين يُمنح الأستاذية الفخرية.
فأي نوع من الاقتصاد بوسعه توفير هذه الحياة الكريمة؟ يشير التاريخ إلى أن هذا قد يتمثل في أحد المغامرين المبادرين من الناس (الذين ينبهون إلى فرص لا يلحظها أحد، ويُقْبِلون على مبادراتهم سعيا لتجريب أشياء جديدة) والمبتكرين (الذين يتخيلون أشياء جديدة، ويضفون مفاهيم جديدة على المنتجات والأساليب التجارية، ويسوقونها كأشياء مرتقبة الحدوث) وقد ينضم إلى المشاركين في بناء مثل هذا الاقتصاد الجيد كل من أبناء القواعد الشعبية للمجتمع وأكثر أبناء هذا المجتمع حظوة.
هذا هو نوع الاقتصاد الذي أتعشم أن تطوره الصين. وبالطبع، قد لا تكون البلاد، في الضائقة التي تحياها، قادرة مباشرة على توفير اقتصاد جيد، فشعبها بحاجة أولا إلى هواء نقي وغذاء آمن. ويكمن الخطر في أن تُكَلِف التلبية الكاملة للاحتياجات التي لا حصر لها للخدمات العامة القطاع العام الكثير جدا على نحو قد يفضي إلى فشله في مواجهة الأنشطة الابتكارية للقطاع الخاص.
وعلى الصين أن تتذكر أن القطاع الخاص بوسعه أن يصبح ندا للقطاع العام أو يتفوق عليه فيما يتعلق بتوفير العديد من الخدمات التي يقدمها الآن القطاع العام. ففي السابق كانت السكك الحديدية تحت الأرض من إبداع أصحاب المشاريع الخاصة. واليوم، تعد "أوبر" الخطوة الأكثر جذرية في مجال النقل بالمدن، ومن المحتمل أن تجسد السيارات ذاتية القيادة التغير الأكثر جذرية في المستقبل القريب ــ وكلاهما من إبداع القطاع الخاص.
يقول بعض المتشائمين، طبعا، إن الصينيين لا يمتلكون لا الحنكة ولا الطبيعة التي تؤهلهم لأن يكونوا مبتكرين. ورغم ذلك تشير التقديرات المتعلقة بالابتكار المحلي في الصين والدول الصناعية السبع الكبرى إلى أن الصين احتلت بالفعل المركز الرابع في تسعينيات القرن المنصرم، ومن ثم، في العقد التالي، حين تراجعت المملكة المتحدة وكندا، تقدمت الصين لتحتل المركز الثاني ــ ليس على مسافة كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية.
الحقيقة هي أن الابتكارات الأمريكية أصبحت أقل كثيرا مما كانت عليه في السابق ــ أما أوروبا فتكاد لا تخرج منها أي ابتكارات. لذا فقد تصبح الصين المصدر الرئيسي للابتكار للاقتصاد العالمي، متساوية في ذلك مع أمريكا أو متجاوزة لها. وتلك في تصوري فرصة لا تقدر بثمن بالنسبة للصين ــ وتطور يستحق الترحيب في أرجاء العالم.
حائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2006، ومدير مركز الرأسمالية والمجتمع في جامعة كولومبيا