مارتن فيلدشتاين
قبل بضعة أيام من عقد الاستفتاء في المملكة المتحدة على "الخروج البريطاني"، قال لي صديق بريطاني وقور رصين التفكير إنه سيصوت لصالح البقاء بسبب تخوفه إزاء حالة عدم اليقين الاقتصادي التي قد تحدث إذا تركت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي. ولكنه أضاف أنه ما كان ليؤيد القرار الذي اتخذته بريطانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1973 لو عَلِم آنذاك كيف قد يتطور الاتحاد الأوروبي.
رغم أن الناخبين اختاروا ترك الاتحاد الأوروبي لمجموعة متنوعة من الأسباب، فإن كثيرين منهم كانوا مهمومين إزاء مدى تجاوز قادة الاتحاد الأوروبي لتفويضهم الأصلي إلى الحد الذي أدى إلى خلق منظمة متزايدة الحجم والعدوانية.
لم يكن حلم جان مونيه بتأسيس الولايات المتحدة الأوروبية معبرا عن رغبة البريطانيين عندما انضموا إلى الاتحاد الأوروبي قبل أربعين عاما. ولم ينصرف مسعاهم إلى إنشاء ثِقَل أوروبي موازن للولايات المتحدة، كما دعا ذات يوم كونراد أديناور أول مستشار لألمانيا في فترة ما بعد الحرب. بل كانت بريطانيا تريد ببساطة الحصول على المزايا المتمثلة في التجارة المتزايدة والتكامل في سوق العمل مع الدول عبر القنال الإنجليزي.
بدأ الاتحاد الأوروبي كترتيب بين ست دول لتحقيق التجارة الحرة في السلع ورأس المال وإزالة الحواجز التي تحول دون حرية تنقل العمالة. وعندما سعى زعماء الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز حس التضامن الأوروبي من خلال إنشاء اتحاد نقدي، كانت بريطانيا قادرة لحسن الحظ على اختيار عدم الانضمام إلى الاتحاد النقدي والاحتفاظ بالجنيه الإسترليني ــ والسيطرة على سياستها النقدية. ولكن اختيار عدم الانضمام جعل بريطانيا أشبه بعضو غريب نسبيا داخل الاتحاد الأوروبي.
ومع توسع الاتحاد الأوروبي من ست دول إلى ثمان وعشرين دولة، لم تتمكن بريطانيا من الحد بشكل دائم من دخول العمال من الدول الأعضاء الجديدة إلى سوق العمل البريطانية. ونتيجة لهذا، تضاعف عدد العمال المولودين في الخارج في بريطانيا منذ عام 1993، إلى أكثر من ستة ملايين، أو نحو 10% من قوة العمل هناك، وأغلبهم الآن من الوافدين من الدول المنخفضة الأجور التي لم تكن بين الأعضاء الأصليين في الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن الناخبين المؤيدين للخروج البريطاني يشعرون بالقلق إزاء الضغوط الناجمة عن ذلك على الأجور في المملكة المتحدة، فإنهم لا يرفضون في عموم الأمر الأهداف الأصلية المتمثلة في زيادة تدفقات التجارة ورأس المال والتي تشكل جوهر العولمة. وربما يشير بعض المدافعين عن الخروج البريطاني إلى اتفاقات التجارة الحرة الأميركية الناجحة مع كندا والمكسيك، والتي لا تحتوي على بنود خاصة بتنقل اليد العاملة.
على النقيض من بريطانيا، كانت دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، بقيادة فرنسا وألمانيا، راغبة في تأمين ما هو أكثر من التجارة الحرة وسوق العمل الموسعة. فمنذ البداية، كان الزعماء الأوروبيون عازمين على توسيع "المشروع الأوروبي" لتحقيق ما أسمته معاهدة روما "الاتحاد المتزايد التقارب". وكان دعاة تحويل السلطة إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي يبررون هذا بفكرة "السيادة المشتركة"، والتي بموجبها قد تتآكل السيادة البريطانية بفِعل قرارات الاتحاد الأوروبي، من دون أي موافقة رسمية من قِبَل حكومة أو شعب المملكة المتحدة.
فَرَض "ميثاق الاستقرار والنمو" في عام 1998 حدا للعجز السنوي في الدول الأعضاء وطالب بتقليص نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى حد أقصى لا يتجاوز 60%. وعندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، رأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الفرصة لتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي، من خلال فرض "ميثاق مالي" جديد يسمح للمفوضية الأوروبية بالإشراف على الميزانيات السنوية للدول الأعضاء وفرض الغرامات على الميزانيات وأهداف الدين المخالفة (وإن كانت أي غرامات لم تفرض حقا). كما قادت ألمانيا التحرك نحو إنشاء "الاتحاد المصرفي" الأوروبي ضمن إطار تنظيمي موحد وآلية ملزمة لحل المؤسسات المالية المتعثرة.
لم تكن كل هذه السياسات مؤثرة بشكل مباشر على المملكة المتحدة؛ ولكنها عملت رغم ذلك على توسيع الفجوة الفكرية والسياسية بين بريطانيا وأعضاء منطقة اليورو في الاتحاد الأوروبي. وكان ذلك سببا في تعزيز الفارق الأساسي بين الحكومات البريطانية المتوجهة نحو السوق وحكومات العديد من دول الاتحاد الأوروبي، التي تتسم بالتقاليد الاشتراكية، والتخطيط الحكومي، والتنظيم الصارم.
يحكم تقسيم السلطات بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي البيروقراطية والدول الأعضاء مبدأ غامض ــ مستعار من التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية ــ يتمثل في "التابعية": حيث تتخذ القرارات على "أدنى" مستوى من "السلطة المختصة" أو أقلها مركزية. وفي الممارسة العملية، لم يحد هذا من توسع عملية وضع القواعد في بروكسل وستراسبورج. وتوفر التابعية قدرا من الحماية لحكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أقل كثيرا من ذلك الذي يوفره التعديل العاشر لدستور الولايات المتحدة ــ الذي يحرم الحكومة الفيدرالية من أي سلطة لا يفوضها لها الدستور ــ للولايات الأميركية.
بطبيعة الحال، لم يكن الرأي العام البريطاني وحده في الشعور بعدم الارتياح إزاء الاتحاد الأوروبي. فقد وجد استطلاع حديث أجرته مؤسسة بيو في دول الاتحاد الأوروبي أن غالبية الناخبين في ثلاث من الدول الأكبر ــ بريطانيا وفرنسا وأسبانيا ــ ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي بصورة سلبية. وفي ألمانيا، انقسم الناس خمسين إلى خمسين. وفي إيطاليا، تقول غالبية واضحة إنها استفادت من عضوية الاتحاد الأوروبي؛ وقد وعدت حركة النجوم الخمسة، التي فازت مؤخرا في الانتخابات البلدية في 19 من أصل 20 مدينة خاضت فيها الانتخابات (بما في ذلك 70% من الأصوات في روما)، بعقد استفتاء على الانسحاب من منطقة اليورو إذا فازت بالانتخابات البرلمانية في وقت لاحق من هذا العام.
رغم أن العديد من المسؤولين والخبراء يتوقعون أن يخلف الخروج البريطاني عواقب اقتصادية وخيمة، فإن هذا ليس حتميا بكل تأكيد. فالكثير يتوقف الآن على شروط العلاقة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. فالآن أصبحت مسألة عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي محسومة. والآن بات مستقبلها الاقتصادي متوقفا على ما قد تفعله باستقلالها الجديد.
أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، والرئيس الفخري للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية،