محمد محفوظ العارضي
كلفت السلطنة خمسة بنوك دولية بإصدار سندات دولية تبلغ قيمتها 2.5 بليون دولار أمريكي لترتيب أمور الموازنة واستمرار تمويل المشاريع السيادية والحفاظ على نشاط وفاعلية السوق العمانية. الكثير من المراقبين ينظرون لعملية التمويل بواسطة إصدار صكوك أو سندات على أنها دليل ضعف الاقتصاد الوطني وتراجع المداخيل من الموارد والعمليات التي تغذي الناتج المحلي الإجمالي، لكن هل هذه النظرة صحيحة؟ هل يعتبر إصدار الصكوك والسندات دليل ضعف أم أنه مظهر قوة في مواجهة احتمالات أزمات مستقبلية؟
للإجابة على هذا السؤال بالتحليل الدقيق الذي يستند لعلوم الاقتصاد الحديث، نحتاج لوضع اليد على مؤشرين، الأول هو مؤشر الثقة بالاقتصاد العماني والذي تجلى بحجم الاكتتاب العالي من المستثمرين الدوليين حتى قارب مبلغ 6 بلايين دولار، وهذا دليل على قناعة المستثمر الأجنبي والمحلي أن السلطنة تمتلك مقومات المضي بمسيرة التنمية والتقدم في كافة قطاعاتها الاقتصادية، وأن هذه البلايين ستغرس في أرضية تنموية خصبة تمتلك فرصاً واعدة.
أما المؤشر الثاني فهو المؤشر التاريخي، أي العودة للتجارب التاريخية المشابهة في مواجهة تراجع المداخيل القومية لدى العديد من الدول، لنرى بالدليل الموثق أي سياسات انتهجوا، وماذا كان تأثير هذه السياسات.
ولعل التجربة الأمريكية في أواخر النصف الأول من القرن الماضي، أي المرحلة التي تلت أزمة الركود الكبير، من أوضح التجارب ذات النتائج الإيجابية للسياسات المالية الجريئة والواثقة التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة آنذاك. فماذا فعلوا لمواجهة الركود الكبير؟ وكيف خرجوا من حالة المراوحة للاقتصاد الأمريكي بين الاحتجاز داخل إطار الأزمة من ناحية وبين الانهيار من ناحية ثانية؟ كيف تمكنت الولايات المتحدة أن تعكس تأثيرات الركود الكبير في أواخر عشرينيات القرن الماضي لتصبح قوة اقتصادية عالمية ضخمة ومتفوقة؟ وهل تعتبر توصيات صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المواد الأساسية وتقليص النفقات بما فيها الإنفاق على مشاريع البنية التحتية والمشاريع السيادية التنموية، هي السياسات الأصح؟ أم أن هناك ما هو أفضل من هذه التوصيات؟.
التنشيط الاقتصادي يحتاج لما يسمى بزيادة السيولة في الدولة، والاستدانة بواسطة السندات أحد أشكال زيادة السيولة. ويجب التنويه هنا بأن هذه السيولة القادمة تنتج بالمقابل سلعاً وخدمات وأصولاً مادية ستبقى بعد عودة السيولة لمصادرها. وهكذا تزيد كمية الإنتاج لمجاراة الطلب الذي سترفعه السيولة فلا تعود هناك حاجة لرفع أسعار المنتجات. وزيادة السيولة نوعان، إما أن تكون ضمن إطار النمو الاقتصادي الطبيعي، أو أن تفوق حجم النمو الاقتصادي الحالي وهذه السياسة تسمى التحفيز الاقتصادي أي التحفيز على النمو، وهي سياسة سليمة طالما أن هذه السيولة ستوظف في الإنتاج والتنمية بحيث يكون إجمالي قيمة ما أنتج بدون احتساب هامش الربح، يساوي إجمالي قيمة ما أنفق.
وتعتبر هذه السياسة التحفيزية من أكثر السياسات حساسية، لذا يجب أن تنفذ بواسطة الدولة وأجهزتها المالية، وتتابع الدولة رقابتها على سير العمل الاقتصادي بعد ذلك حتى بعد تعهيد بعض العمليات الاقتصادية للقطاع الخاص. إن رقابة الدولة هنا ستضمن إنفاق هذه السيولة في مواضعها المحددة وأن يعاد إنفاق ناتجها مرات متكررة وفق معادلة الإنتاج والإنفاق، وهكذا تنمو قيمة المبلغ المستدان في كل مرة يعاد توظيفه في عمليات جديدة ويتم إنعاش الاقتصاد وتنشيطه، خاصة أن سلطنة عُمان تمتلك فائض موارد وإمكانيات وثروات وبالتالي فهذه الموارد قابلة للتجاوب مع سياسة التحفيز.
ولكي لا يتسم كلامنا بالتنظير والتعميم، لا بد من استحضار تجربة تاريخية ليست بعيدة جداً، وهي تجربة أمريكا بعد الكساد الكبير الذي أنتج طوابير من الباحثين عن عمل ومن البنوك المفلسة والمشاريع المعطلة. عندها بدأ الرئيس فرانكلين روزفلت بما يسمى بالخطة الجديدة للاقتصاد، أو «الصفقة الجديدة» بالترجمة الحرفية، فطلب من المصرف المركزي أن يطبع المزيد من النقود، ودفع للعاطلين عن العمل إعانات بطالة، وبدأ بخطة ممنهجة لإصلاح الهيكلية الاقتصادية. انتقل بعد ذلك إلى المشاريع العملاقة، بناء الجسور والطرق والسدود ومحطات تحلية مياه حتى بناء مدن جديدة بكل ما تحتاجه من خدمات وسلع أولية للبناء والتجهيز.. إلخ.
هذه المشاريع الممولة بالسيولة المضافة، أي السيولة خارج النمو والمحفزة على النمو، ضخت مبالغ ضخمة في القطاعات الاقتصادية، فتراجعت البطالة، وتحركت الأجور وارتفعت وبدأ الطلب على المنتجات بالارتفاع بالمقابل، فعادت المصانع والمشاريع المعطلة للعمل ولجأ الناس للبنوك لإيداع أموالهم فنشطت البنوك وعادت لوظيفتها.
بعد ثمانية عشر شهراً من بدء هذه الخطة، خرجت أمريكا من قائمة الدول المفلسة وبدأت مسيرتها الجديدة. بعد الحرب العالمية الثانية استكمل ايزنهاور الخطة ذاتها، ضخ المزيد من السيولة لرفع الطلب على المنتجات التي كانت تزيد وتتنوع أيضاً.
في عهد كنيدي بدأت مشاريع الفضاء الأمريكي، وصرفت المزيد من السيولة على أبحاث الفضاء ونشاطات ناسا ومجمل المشاريع العلمية والبحثية المرتبطة بهذا المشروع، وتأسست قاعدة عريضة للأبحاث العلمية المتنوعة في مجالات الطب والزراعة وإنتاج وسائل الإنتاج.
واستمرت السياسة ذاتها في عهد الرؤساء الآخرين، وتكاملت عمليات البحث العلمي وارتفعت نسبة قطاع التكنولوجيا والمعلومات من الناتج القومي الأمريكي.
سنكتفي باستعراض التجربة الأمريكة في التحفيز الاقتصادي بالسياسات المالية عند هذه النقطة؛ لأن ما تبعها بعد ذلك كان سلسلة من التراجعات لدور القطاع العام وتوسيع سيادة القطاع الخاص حتى أصبح أقوى من مؤسسة الدولة ذاتها فانحرفت البوصلة عن مسار التنمية وعادت الأزمات من جديد.
خلاصة القول في هذا الموضوع، أن سياسة التحفيز الاقتصادي بالمزيد من السيولة والصرف السيادي كانت هي السياسة الأنجع عبر التاريخ لمواجهة الأزمات، وليس سياسة تقليص النفقات والخصخصة وتراجع دور الدولة ومؤسساتها عن حفظ وصيانة مسيرة التنمية.
نحن في السلطنة، قيادةً ومؤسسات مالية وغيرها، مؤهلون أكثر من غيرنا لسياسات التحفيز الاقتصادي، لذا أنا أرى أن عوائد السيولة التي ستدخلها السندات التي تحدثنا عنها ستكون مركبة ومتنامية وخطوة واسعة على طريق تطور السلطنة ونهضتها.
رئيس مجلس الإدارة التنفيذية لمؤسسة أنفستكورب
ورئيس مجلس إدارة البنك الوطني العُماني