نعش الاتحاد الأوربي!

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٦/يونيو/٢٠١٦ ٢٠:٠٠ م
نعش الاتحاد الأوربي!

أ.د. حسني نصر

من المؤكد أن تصويت غالبية البريطانيين الخميس الفائت على الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون له تداعيات عالمية كثيرة قد تستمر لسنوات لا يقتصر فقط على أوروبا بل يمتد إلى كل أنحاء العالم، خاصة وأنها الحالة الأولي التي تنفصل فيها دولة عن هذا الاتحاد، وقد تتلوها حالات أخرى تعجل بزوال الاتحاد نفسه والعودة إلى أجواء التنافس والصراع.
التداعيات المباشرة لقرار البريطانيين الانسحاب من الاتحاد الأوربي كانت سريعة ومزعجة إلى حد كبير. فقد أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ترك منصبه في أكتوبر المقبل لرئيس وزراء جديد سيكون عليه البدء في إجراءات الطلاق البريطاني- الأوروبي، وتزايدت الشكوك المحيطة بمستقبل المملكة المتحدة مع عودة الحديث عن انفصال محتمل لأسكوتلندا وإيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وكذلك حالة الارتباك التي سادت الأسواق العالمية والخسائر التي منيت بها، والانكماش المتوقع للاقتصاد البريطاني الذي يعد خامس اقوى اقتصاد في العالم، وثاني اكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد الاقتصاد الألماني، والاقتصادات الدولية المرتبطة به.
يبدو من المهم في هذا التوقيت أن نتوقف قليلا أمام الآثار غير المباشرة وربما غير المرئية لهذا القرار الذي قسم العالم وقسم بريطانيا العظمي نفسها نتيجة اتجاهات التصويت في الاستفتاء التي انحازت للانفصال بفارق ضئيل على حساب البقاء ضمن أوروبا الموحدة. ونعني بالآثار غير المباشرة تلك المحيطة بالاتحاد الأوربي نفسه ومستقبله ومستقبل السلام العالمي في ظل ردود الأفعال التي عبرت عنها أحزاب يمينية ويسارية في أكثر من دولة أوربية تطالب بإجراء استفتاءات مماثلة للاستفتاء البريطاني للانسحاب من الاتحاد. وقبل المضي قدما في بحث تداعيات الانسحاب البريطاني من المهم الإشارة إلى أن هذا الانسحاب لن يكون سريعا او سهلا كما يتوقع البعض، بل انه قد يستغرق عدة سنوات ومفاوضات شاقة مع الاتحاد، لأنه يعني الخروج من أكبر منطقة تجارة في العالم تخدم أكثر من خمسمائة مليون شخص، كما يعني تخلي بريطانيا عن التزامات عديدة مثل حرية حركة العمالة ورؤوس الأموال والبضائع والخدمات مع بقية الدول الأوربية، ويعني كذلك تداعيات عديدة على النظام التشريعي البريطاني الذي يعمل وفق قوانين أوروبية كثيرة تغطي تقريبا كل مجالات الحياة. ومن المتوقع أن يكون التأثير الأكبر لهذا الانسحاب على قضايا التجارة والهجرة، إذ أن بريطانيا سوف تفقد تلقائيا وصولها السهل إلى الأسواق الأوربية، كما ستفقد العمالة الأوروبية التي كانت تلتزم بالسماح لها بالمعيشة والعمل على أراضيها.
أن ما أحدثه تصويت البريطانيين يمكن وصفه بالمسمار الأول في نعش الاتحاد الأوربي بالنظر إلى ما قد ينجم عنه من انسحابات مماثلة لدول رئيسية في الاتحاد يشعر مواطنوها مثلما شعر البريطانيون بان بقائهم في هذا الاتحاد يتعارض مع هوياتهم الخاصة ومصالحهم الوطنية ومستوى المعيشة والرفاهية التي يحلمون بها، ويلزمهم بتبعات إنسانية ثقيلة نتيجة سياسة الهجرة ودعم الفئات محدودة الدخل التي يتبعها الاتحاد. ولذلك فانه من المؤكد أن "البركست" وهو المصطلح الذي أطلقته الصحافة العالمية على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوربي سوف يتلوه انسحابات أخرى من الاتحاد، وهو ما يمثل تحديا لقادة الدول الأوربية الذين سيواجهون المزيد من الغضب الشعبي وحملات ومطالبات قوية خاصة من جانب الأحزاب اليمنية والانفصالية للخروج من الاتحاد. وقد بدأت هذه المطالبات مبكرا وعبر عنها سياسيون بارزون مثل مارين لوبان رئيس الجبهة الوطنية في فرنسا الذي طالب باستفتاء "فريكست" لخروج فرنسي مماثل، وجيرت ويلدرز زعيم حزب الحرية في هولندا الذي طالب باستفتاء "نيكست" لخروج هولندا من الاتحاد الأوربي. ومن المؤكد أن مطالبات أخرى ستظهر للخروج من الاتحاد خاصة من الدول التي اكتوت بنار السياسات المالية والاقتصادية الموحدة مثل اليونان.
مع تصاعد هذه الاحتمالات المبكرة يبقي السؤال عن رد فعل الاتحاد الأوربي نفسه على الخروج البريطاني الذي سيخفض عدد أعضائه إلى 27 دولة؟ وهل يستسلم للاستفتاءات المماثلة حتى ينفرط عقده تماما خلال سنوات قليلة ام يقف أمام هذه المحاولات ويواجهها؟ الواقع انه يمكن تلمس الإجابة عن هذا السؤال في التصريحات التي اطلقها بعض القادة الأوربيين الذين امتصوا الصدمة البريطانية التي مثلت وفق ما قالت المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل نقطة تحول في الوحدة الأوروبية، والتقي مسؤولون أوروبيون في نفس يوم إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني في بروكسل للتحضير لاجتماع قادة الاتحاد الأسبوع المقبل، وتحولوا سريعا إلي البحث عن رد مناسب وحلول عاجلة لتأكيد التزامهم بتقوية وتحسين حالة الاتحاد، وهو ما عبر عنه مانويل فالس رئيس وزراء فرنسا بالقول أن الوقت قد حان للبحث عن أوروبا جديدة او إعادة اختراع أوروبا جديدة.
يبدو الوقت مبكرا على أي حال لتصور أوروبا الجديدة التي يتحدث عنها قادة اليمين، والتي يمكن أن ترضي طموح شعوبها الراغبة في الانفصال، والتي تريدها قارة مغلقة عليهم لا تسمح للاجئين والمهاجرين بدخولها والحياة فيها. لقد كشف تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عن صراع حقيقي يعيشه الأوروبيون بين البحث عن هوياتهم القومية وبين البحث عن مصالحهم الاقتصادية، وفي حال انتصار الباحثين عن الهوية وتفكك الاتحاد سيكون على أوروبا الجديدة في حال استمرار وتصاعد مطالبات واستفتاءات الانفصال أن تعود إلى تاريخها القطري الضيق، وهو ما قد يفتح الباب واسعا لعودة المد القومي داخل كل دولة بكل ما يعنيه ذلك من تفجر الصراعات العرقية والدينية القديمة وعودة الحروب العالمية التي بدأت وانتهت فيها.

أكاديمي في جامعة السلطان قابوس