نداء إيقاظ أوروبا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٦/يونيو/٢٠١٦ ٢٠:٠٠ م
نداء إيقاظ أوروبا

جايلز ميريت

يبدو أن سُحُب التشكك الشعبوية الداكنة في أوروبا والتي تخيم على سماء الاتحاد الأوروبي لا تخلو من جانب مضيء. ففي بروكسل وعدد من عواصم أوروبا، يعلم القادة أن الاتحاد الأوروبي لابد أن يستجيب لحالة السُخط المتزايدة الحِدة، وأن القيام بهذا ــ بعد طول انتظار ــ ينطوي على مكاسب تتصل برأس المال البشري.
كانت مناقشة "الخروج البريطاني" التي انطوت على قدر كبير من الهراء والحماقة في المملكة المتحدة بمثابة العامل المحفز. والواقع أن الحجج التي يسوقها أنصار "الرحيل" كثيرا ما تتسم بعدم الدقة، إن لم تكن أكاذيب صريحة؛ ولكن المناقشة الصاخبة المحتدمة في بريطانيا حول البقاء في أوروبا كانت سببا في تعرية نقاط الضعف العميقة الجذور التي تعيب الاتحاد الأوروبي ــ كما أرغمت زعماء أوروبا على التوقف عن تجاهلها.
ويفرض صعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا ضغوطا مماثلة في مختلف أنحاء القارة. ولكن برغم التخوفات التي تثيرها هذه الأحزاب، فإن مصداقيتها السياسية ضئيلة؛ وعلى النقيض من ذلك يضم أنصار الخروج في المملكة المتحدة وزراء حكوميين يعتبرون عملية اتخاذ القرار التي يفترضون أنها غير ديمقراطية في الاتحاد الأوروبي مِن أوجه القصور الرئيسية التي تعيبه.
الواقع أن أكبر إخفاقات الاتحاد الأوروبي لا تتعلق بالديمقراطية إلا قليلا. فمن غير الممكن أن نُحَمِّل الكيفية التي يتوصل بها الاتحاد الأوروبي إلى قراراته المسؤولية عن الفوضى الناجمة عن أزمة اللاجئين والمهاجرين، أو استجابة أوروبا غير الكافية للربيع العربي في عام 2011، أو أزمة أوكرانيا بعد ثلاث سنوات، أو عدوانية روسيا. ولكن كل هذا يؤكد على عجز الاتحاد الأوروبي عن تقديم استجابة سريعة حاسمة. والأمر الأسوأ هو أنه يسلط الضوء على فشل الاتحاد الأوروبي في تجنب المتاعب من خلال الاتفاق على استراتيجيات اقتصادية وأمنية واضحة.
ومع كل هذا، تمثل الديمقراطية المفتاح إلى مستقبل الاتحاد الأوروبي. فلسنوات ظل المنتقدون يشيرون إلى "العجز الديمقراطي" في أوروبا. ذلك أن مجلس الوزراء ــ الذي يشكل جنبا إلى جنب مع البرلمان الأوروبي الهيئة التشريعية للاتحاد الأوروبي ــ لا يقل تحصينا ومناعة عن مجلس الوزراء في كوريا الشمالية؛ فهو يمارس دوره من خلف الأبواب المغلقة، من دون أي سجل عام يقرر من قال ماذا.
لم يخل الأمر من تحركات متواضعة لزيادة صلاحيات البرلمان الأوروبي، ولكن لم يُعتَرَف بها بالقدر الكافي من قِبَل الجمهور الأوروبي لتهدئة الشكاوى. والواقع أن تلطيف كراهية الناخبين للاتحاد الأوروبي سوف يتطلب إحداث تغييرات جوهرية، وقد بدأت هذه الحقيقة المزعجة تتبادر إلى أذهان ساسة التيار السائد في أوروبا.
كان مكمن التخوف الرئيسي بين حكومات الاتحاد الأوروبي أن يؤدي التصويت على خروج بريطانيا في الثالث والعشرين من يونيو ( تم التصويت على خروج بريطانيا من الأتحاد الاوروبي) إلى إطلاق العنان لسلسلة من الاستفتاءات المماثلة في أماكن أخرى. ومن المؤكد أنه سيوجه ضربة قاصمة لمصداقية الاتحاد الأوروبي، سواء في الدول الأعضاء أو في الخارج.
ولكن القرار البريطاني بالبقاء يكاد يكون على نفس القدر من السوء، إذا تنفست مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل الصعداء ببساطة وعادت إلى العمل كالمعتاد، تاركة الهياكل المختلة على حالها. ففي هذه الحالة، لن يتورع الشعبويون عن استخدام بعبع دولة الاتحاد الأوروبي العظمى للنخر في دعم القاعدة العريضة لأحزاب الأغلبية.
أي شكل من أشكال الإصلاح الديمقراطي يمكن تصوره إذن؟ طُرِح هذا السؤال آخر مرة في عام 2005، عندما نَسَف الاستفتاءان الفرنسي والهولندي المعاهدة الدستورية المقترحة للاتحاد الأوروبي. كان الاتحاد الأوروبي في أوج شعبيته في ذلك الوقت، معتمدا على اليورو الجديد و"الانفجار الكبير" الطموح المتمثل في التوسع نحو الشرق في عام 2004؛ وعلى هذا فإن فرص تأمين التغيير اليوم، وقد بلغت شعبية الاتحاد الأوروبي الحضيض، ربما تبدو أقل ترجيحا لأول وهلة.
الواقع أن العكس قد يكون صحيحا. فعندما كان "المشروع الأوروبي" مزدهرا، أدرك قِلة من أصحاب الرؤى الحاجة إلى تركيز المزيد من الصلاحيات. وقد يبدو الأمر منافيا للبديهة، ولكن في انخفاض إنتاجية أوروبا وتقلص قوتها العاملة ما يشير إلى قدوم أوقات ربما تكون أشد صعوبة في المستقبل وهو ما يعزز من الحجة لصالح الاتحاد الأوروبي الأكثر كفاءة، والأكثر ديمقراطية في استجاباته للأحداث.
وهذا هو السؤال الأشد صعوبة على الإطلاق. فكيف يتسنى للاتحاد الأوروبي أن يحول آليات اتخاذ القرار الآيلة للسقوط والتي أعيد توجيهها وإخضاعها لإضافات مؤقتة لما يقرب من أربعين عاما إلى ديمقراطية عاملة تتسم بالكفاءة؟ يحول دون هذا مبدأ السيادة المقدسة لثماني وعشرين دولة ذات ثقافات سياسية شديدة الاختلاف ومجموعة من المصالح الوطنية والإقليمية المتصارعة. هذا فضلا عن غياب أية نماذج واضحة يمكن البناء عليها.
اقترح علماء السياسة عشرات الأفكار، بدءا من إعادة تقديم مبدأ التفويض المزدوج (إعطاء النواب الوطنيين مقاعد في البرلمان الأوروبي) إلى إنشاء مجلس شيوخ للاتحاد الأوروبي ضمن نظام ذي مجلسين تشريعيين. ولكن تفاصيل الاتحاد الأوروبي الأكثر ديمقراطية، حيث تصبح المفوضية الأوروبية مسؤولة حقا أمام الجمهور، ليست على نفس القدر من أهمية الإرادة السياسية اللازمة للتحرك إلى الأمام.
الواقع أن أغلب الحكومات الوطنية في أوروبا، أيا كان لونها السياسي، عارضت لفترة طويلة فكرة الاتحاد الأوروبي الأكثر تبسيطا وديمقراطية. ولكن يتعين على هذه الحكومات أن تختار الآن بين تطويقها من قِبَل الأحزاب المشككة في أوروبا على أقصى اليسار وأقصى اليمين، أو الاستجابة لهذا التهديد بإنشاء ديمقراطية فوق وطنية قادرة على إرضاء الناخبين ومعالجة مخاوفهم المشروعة.
من الواضح أن المعاهدة الأوروبية لعام 2003 والتي أنتجت دستور الاتحاد الأوروبي السيئ الطالع لا تصلح كخطة للمستقبل. فقد أجريت أعمالها الملتوية بعيدا عن الأنظار إلى حد كبير. ولكي يتسنى للاتحاد الأوروبي وقف الانتقادات المتصاعدة الموجهة إلى أوروبا فإنه في احتياج إلى مفاجأة درامية تتمثل في إدارة مناقشة مفتوحة تُشرِك المجتمع المدني، وليس مجرد حفنة من الممثلين السياسيين. ولابد أن تكون الفرضية الأساسية لهذه المناقشة أن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو التفكك، وأنه لن يتمكن من عكس هذا الاتجاه إلا من خلال الاستجابة بشكل أكبر لمواطني أوروبا.

مؤلف كتاب "المنحدر الزلق: مستقبل أوروبا الكئيب"، الذي نشرته مطبعة جامعة أكسفورد مؤخرا.