فريد أحمد حسن
حتى وقت قريب كان يسهل عند الحديث عن دول مجلس التعاون الخليجي القول إنها "ليست هي من تصنع القرار الاستراتيجي للمنطقة لكن يمكن أن تؤثر فيه بصورة أو بأخرى وتلعب أدوارا في صناعته" كما هو في بعض التحليلات ، لكن هذا لم يعد كذلك اليوم حيث الواقع يؤكد أن دول هذه المنظومة – مجتمعة أو فرادى - هي من تصنع القرار وأن العالم يؤثر به بصورة أو بأخرى ، ويتأثر به .
هذه حقيقة قد تبدو صادمة للبعض الذي لا يزال دون استيعاب حالة التطور التي تشهدها هذه المنظومة ودولها أو لا يزال ينظر إليها من عل ويعتقد في قرارة نفسه أنها أوجدت لتكون تابعة لغيرها ، لكنها حقيقة لا يمكن لكل عاقل إلا التعامل معها بواقعية ، وليس في هذا مبالغة ، فدول مجلس التعاون اليوم تختلف عن تلك التي كانت بالأمس ، والمتابع لتطورات الأحداث في المنطقة وخارجها يدرك أن هذا الكلام صحيح وواقع .
دول التعاون لم تعد مؤثرة فقط ولكنها اليوم صانعة للقرارات ، وهي كذلك حتى مع التباين في تعاملها مع الأحداث والذي تفرضه أمور عديدة يمكن اختصارها في اختلاف الزوايا التي تنظر من خلالها كل دولة إلى كل ملف ، وما اختلافها في التعامل مع ما يجري في العراق وسوريا مثلا أو في العلاقة مع الولايات المتحدة وإيران إلا تأكيدا لهذه الحقيقة .
البعض الكثير يأخذ على منظومة مجلس التعاون أن مواقف دولها متباينة إزاء العديد من القضايا وأنها لهذا لا يمكن أن تصل إلى مرحلة الوحدة التي يتم الحديث عنها بين الحين والحين وتأمل بعض دولها تحققها سريعا . لكن هذا أمر طبيعي ، فهذه المنظومة عبارة عن إطار يشمل ست دول تربطها مصالح محددة وتنتمي إلى جغرافيا واحدة وتاريخ واحد ودين واحد تعينها على توفير وجهات نظر متقاربة ، أي ليس بالضرورة متطابقة ، فهي ست دول وليست دولة واحدة ، وست سلطات وليست سلطة واحدة ، ولهذا فإن الطبيعي هو الاختلاف في جزء والتوافق في جزء . ومع هذا فإن عوامل كثيرة – منها التوافق ونضوج التجربة وتشكل الخبرة – أدت إلى أن يكون لهذه المنظومة ولهذه الدول قدرة على التأثير في بعض الأحداث وقدرة على صنع القرارات والتحكم في كثير غيرها وجعل الآخرين أو كثيرا منهم يتخذون مواقفهم بناء على مواقفها .
اليوم يوجد تواجد لدول مجلس التعاون في سوريا والعراق ، لكن هذا التواجد تجاوز مرحلة التأثير والتأثر ووصل إلى مرحلة صارت فيها جزءا من القرار وصانعة لبعضه أو لأكثره . اليوم لا يمكن التوصل إلى صيغة نهائية لما يجري في هذين البلدين من دون دول التعاون .
ليس هذا شطحا من الخيال ولكنه واقع أكدته وتؤكده الأحداث ، تماما كما هو الحال في اليمن الذي لم تعد الفصائل اليمنية وحدها التي تتقاتل فيه ، بل أن خروج مجلس التعاون من المشهد اليمني يزيد المشكلة اليمنية تعقيدا ، لذا فإن من اليسير القول إن إخراج اليمن من مشكلته ورسم مستقبله يكون بقرارات يصنعها مجلس التعاون كمنظومة وكدول ، أي أن السبيل الأسلم لإنقاذ اليمن هو توافق دول مجلس التعاون على حل معين .
مشكلة لبنان أيضا صار صعبا حلها من دون قرارات تصنعها دول مجلس التعاون ، والأمر نفسه فيما يخص ليبيا ، بل أن القضية الفلسطينية نفسها صار صعبا حلها إلا عبر قرارات تصنعها دول هذه المنظومة . هذه بالنسبة للبعض الكثير حقيقة صادمة ، ولعلهم يحتاجون إلى مزيد من الوقت ليستوعبوها ويعترفوا بها ، لكن يتوفر عليها ألف دليل ودليل . ترى من يستطيع أن يجزم بأن تنصيب رئيس جديد للبنان يمكن أن يتم من دون رضى وموافقة مجلس التعاون أو بعض دوله ؟ ومن يستطيع أن يجزم أن مشكلات العراق وسوريا واليمن وليبيا وحتى مصر يمكن أن تنتهي من دون أن يكون لدول مجلس التعاون دورا في إنهائها ؟
هذا لا يعني أن دول مجلس التعاون هي من يزيد من أمد الحروب في هذه الدول بتوافقها أو تباين مواقفها ، فالعكس هو الصحيح ، وما تقوم به دول التعاون هو العكس ، أي أن دول التعاون هي من تستطيع صناعة القرارات اللازمة لإخراج هذه الدول من أزماتها وليس تعقيدها . في هذا الخصوص يمكن التمثيل بسلطنة عمان التي أدت سياستها ومواقفها إلى حل كثير من المشكلات في هذه البلدان وغيرها حيث وظفت دبلوماسيتها وتمكنت عبر التفاهم مع شقيقاتها من صناعة قرارات صارت نتائجها ملموسة على أرض الواقع . حدث هذا في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين ، وكذلك في اليمن الذي صار العالم كله يدرك أن طريقه إلى السلام يمر عبر قرارات يتم صنعها في دول مجلس التعاون وليس خارجها بما في ذلك الولايات المتحدة .
مرة أخرى ، ليس هذا من الخيال وليس تعظيما لشأن المنظومة الخليجية ودولها وإعطائها حجما أكبر من حجمها ، ولكن هذا هو الواقع ، وهي الحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها ، فدول التعاون اليوم تجاوزت مرحلة التأثير والتأثر إلى مرحلة صناعة القرارات التي من دونها لا يمكن لكل - أو على الأقل لجل - مشكلات المنطقة أن تجد طريق الحل . اليوم من دون صناعة قرار خليجية لا يمكن للمنطقة أن تهدأ ، وهو ما تؤكده تطورات الأحداث .
· كاتب بحريني