مواجهة المستقبل في الصحافة العربية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٩/يونيو/٢٠١٦ ٢٠:٢١ م
مواجهة المستقبل في الصحافة العربية

أ.د. حسني نصر

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها وسائل الإعلام العربية خاصة الصحف المطبوعة بسبب تراجع عائدات النفط الذي أثر دون شك على عائدات الصحف من الإعلانات والاشتراكات الحكومية التي تمثل المصدرين الرئيسيين لتمويل تلك الصحف في غالبية الدول العربية. فمع استمرار الأزمة لجأت بعض الحكومات إلى الحد من إعلاناتها وكذلك خفض اشتراكاتها في الصحف وهو ما ظهر جليا في كثير من الإدارات الحكومية التي قصرت هذه الاشتراكات على صحيفة او صحيفتين فقط وبأعداد محدودة توزع على مكاتب الإدارات العليا دون أن تصل إلى الموظفين كما كان الحال من قبل.

والواقع أن الأزمة التي تواجهها الصحف العربية متعددة الجوانب ولا تقتصر فقط على الأزمة المالية الناتجة عن أزمه انخفاض أسعار النفط وتتجاوز ذلك إلى ازمه القارئية وانخفاض أعداد القراء الناتجة عن المنافسة الشرسة التي تواجهها الصحافة المطبوعة منذ سنوات من الصحافة الإليكترونية والتي زادت حدتها بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي التي أصبحت تمثل للكثيرين منصات إخبارية وإعلامية مجانية تغنيهم عن شراء الصحف ومطالعتها على الورق. في ظل ذلك يصبح من الضروري البحث عن مخارج وخيارات جديدة يمكن أن تلجا إليها الصحف لتعويض خسائرها المالية وخسائرها من القراء حتى لا تضطر إلى الخروج من السوق بكل ما يعنيه هذا الخروج من خسارة فادحة لوسيلة كانت ولا زالت من اهم وسائل تشكيل الثقافة العامة وصناعة الرأي العام وتعزيز الهوية الوطنية.

إن مراجعة الأوضاع الإعلامية الدولية تؤكد أن الصحافة الورقية لا غني عنها، بمعني انه رغم توقف بعض الصحف عن الصدور، فإن العالم مازال بحاجة إلى استمرار هذه الوسيلة الإعلامية التي تمثل بما تنشره من أخبار ومواد رأي أساس غالبية ما يُنشر في وسائل الإعلام الجديدة. هذا الاستمرار المكلف ماليا يستدعي الوصول إلى صيغة اقتصادية مناسبة تضمن تعظيم الاستفادة مما ينتجه الصحفيون في الصحف الورقية من جانب وتضمن استمرار الصحف الورقية من جانب أخر من خلال دعمها اقتصاديا من منصات النشر الأخرى التي يقبل عليها الناس مثل المواقع الإليكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي والتلفزيون. هذه الصيغة أصبحت تعرف في العالم بالاندماج الإعلامي مع وسائل الإعلام الأخرى الذي يمنح الصحف وصناعة الصحافة بوجه عام فرصة جديدة للحياة والاستمرار.

والواقع أن اندماج وسائل الإعلام في العالم العربي سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي أصبح يمثل الحل الأمثل لتجاوز الأزمات الاقتصادية والفنية التي تكبل وسائل الإعلام العربية بشكل كبير. وعلى سبيل المثال يمكن أن تندمج المؤسسات الصحفية غير المتنافسة في المنطقة العربية في مؤسسة صحفية إقليمية مع استمرار صدور الصحف نفسها في كل قطر عربي على حدة عن المؤسسة الجديدة. ويتيح مثل هذا الاندماج تعظيم اقتصاديات الصحف القائمة والاستفادة من الإمكانات المادية والتكنولوجية والبشرية التي تتيحها الشركة أو المجموعة الجديدة. كما يمكن أن تتجه بعض المؤسسات الصحفية الأهلية والخاصة إلى الاندماج مع بعض القنوات الفضائية الجديدة وشركات التزويد بخدمات الإنترنت وشركات الاتصالات لتشكل مجموعة إعلامية عربية ضخمة تكون قادرة على المنافسة في السوق العالمي. وبهذه الطريقة يمكن أن تنتعش الصناعات الإعلامية في الوطن العربي عبر سلسلة من الاندماجات المدروسة والمقننة جيدا، وبما يسهم في ازدهار صناعة الإعلام في العالم العربي.

من المهم أن يدرك القائمون على الصحف العربية إن الاندماج الإعلامي هو كلمة السر في التحول الكبير الذي شهدته الصناعات الإعلامية في العالم في السنوات العشرين الأخيرة والذي جعل بعض الشركات الإعلامية تحقق عائدات وأرباحا قياسية. وقد قامت هذه السياسة على تحرك الشركات الكبيرة إلى الاندماج معا في شركات إعلامية أكبر تقدم جميع المنتجات الإعلامية مستفيدة في ذلك بالتطورات المتلاحقة في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. فأصبحت الشركة الإعلامية الواحدة تمتلك عددا من الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفزيون وشركات إنتاج سينمائي بالإضافة إلى شبكات اتصال وشبكات إنترنت عالمية كما هو الحال في مجموعة أمريكا أون لاين تايم وارنر التي أصبحت أكبر شركة إعلام في العالم. وقد وَلَدَ الاندماج الذي تم بين أمريكا أون لاين وتايم وارنر أكبر مؤسسة إعلامية في العالم، إذ بلغت قيمتها 350 بليون دولار. وقد أصبحت تايم وارنر أكبر شركة إعلامية في العالم من خلال خطة استراتيجية شملت عددا من الاندماجات. ففي البداية اندمجت الشركة مع شركة وارنر للإعلام، ثم مع مجموعة تيرنر الإذاعية، وفي عام 2000 اندمجت مع أمريكا أون لاين. وتعمل المجموعة في ستة قطاعات إعلامية رئيسية هي أنظمة التلفزيون السلكي (الكايبل)، والنشر، والأفلام، والموسيقى، والإذاعة والتلفزيون، والإنترنت. وتركز المجموعة على السوق العالمي خاصة من خلال مجموعة وارنر للموسيقى، بالإضافة إلى مشروعات المجموعة التلفزيونية والإذاعية، خاصة شبكة (سي إن إن) العالمية التي تنتج برامج خاصة مصممة لآسيا وأوروبا ومناطق أخرى من العالم.

من المهم أيضا أن ندرك أن فكرة وفلسفة الاندماج لا تقتصر على الاندماج الاقتصادي بين الشركات الإعلامية وتتخطى ذلك إلى اندماج مسؤوليات العمل الإعلامي داخل المؤسسات الإعلامية ودمج وظائف الإعلام الأساسية الإخبارية والترفيهية. لقد تحول الإعلام في غالبية دول العالم إلى صناعة ضخمة شديدة التنافسية في حين ظل نفس الإعلام في العالم العربي أسير الرؤية الأحادية التي تجعل الصحف جزرا منعزلة عن بعضها البعض وعن وسائل الإعلام الأخرى. ما أحوجنا الآن إلى وسائل إعلام قوية قادرة على الدخول في السوق العالمي والتنافس مع مثيلاتها في هذا السوق شديد الاتساع وشديد الثراء. فهل آن لوسائل الإعلام العربية أن تخرج من واقع الضعف والتشرذم وتتجه إلى الاندماج الذي أصبح المصير الحتمي المشترك لمستقبل وسائل الإعلام التقليدية والجديدة على حد سواء؟

اكاديمي في جامعة السلطان قابوس