احمد المرشد
اعترف في البداية أن الموضوع الذي أكتبه اليوم ربما تأخر بعض الوقت لظروف كثيرة، منها تزاحم الأفكار وسرعة الأحداث، مما جعلني أفكر مليا في تأجيله الي شهر رمضان المبارك، فهو أحق بالذكر فيه، بصفته شهر الرحمة، فما سأكتبه يتعلق حقا بالرحمة، الرحمة باليتيم ومن فقد والدته ووالده ، واعترف أيضا بأن الذي دفعني للكتابة عن اليتيم هو حكاية الطفل المصري أسامة المعروف باسم "طفل سيناء" الذي طلب منه في ورقة أسئلة العربي بأن يكتب موضوعا عن الأم، فكتب عبارة بليغة وحكيمة ، فكتب "أمي ماتت ومات معها كل شئ"..لتتحول هذه الجملة والطفل الي حديث مواقع التواصل الاجتماعي في مصر والوطن العربي، ولعلي هنا أبرز بعض الحقائق عن هذه الرواية وما يرتبط بها من حال اليتيم، ولا أخص بلدا معينا وإنما عموما.
أسامة طفل لم يتجاوز عامه العاشر وفي الصف الخامس الابتدائي في مدينة الشيخ زويد بالعريش التي تتعرض يوميا لحوادث إرهابية ضد المدنيين وجنود القوات المسلحة والشرطة المصرية في حرب شرسة لكسر شوكة المصريين والتي لن تنكسر بإذن الله، حرب أتت علي الأخضر واليابس، وكانت جملة أسامة في موضوع "التعبير" التي أشرنا إليها سببا في شهرته ليس علي مستوي مدينته فقط، وإنما تعدت مصر الي كل الأقطار، وهذا بسبب أمه التي يفتقدها ويحن إليها، أمه التي اعتاد أن تمسك يديه من الصف الثاني وتوصله حتي باب مدرسته لمسافة 7 كيلومترات ذهابا ومثلهم إيابا، ليخطف الموت هذه الأم بعد رحلة مرض مؤلمة تسبب في أن تتلون حياة الطفل أسامة بالسواد. ولم لا؟.. فهي الأم والأب معا، فالأب قعيد ولا يقدر علي العمل، مما جعل أسامة يرفض المشاركة في حفل تكريمه بمحافظة شمال سيناء التابع لها، ويترك مكافأة المحافظ حتي لا يضيع عليه أجرة عمل يوم في مزارع الزيتون، فالطفل ورغم حداثة سنه قد أصبح عائل الأسرة، ويتحمل شظف العيش ويذهب للحقول يوميا من أجل أجرة زهيدة يوميا، ويتحمل كل مخاطر الإرهاب وربما يصطاده إرهابيا برصاصة، ولكنه لا يأبه بكل هذه المخاطر ويواصل عمله في المزارع من أجل توفير لقمة عيش ولو بسيطة لأشقائه الأربع ووالده القعيد.
أسامة ابن العاشرة تصوره التقارير الصحفية المصرية علي أنه أصبح كمن بلغ الخمسين من عمره، يجلس وقت راحته تحت أشجار الزيتون ثم يستكمل نوبة عمله انتظارا لانتهاء ساعاته، ليحصل على 10 جنيهات في نهاية اليوم، ليعود مسرعا الي والده الذي يعيله وإخوته الصغار.
أسامة ابن العاشرة فقد بفقدان أمه الأمن والأمان، ولكنه يسعي كل يوم لتعويض أخوته ما كانت تأتي به الأم لهم بعد ساعات عمل طويلة أرهقتها وقضت علي حياتها، ولكنه بحماس الرجل رفض التعويل علي إحسان الآخرين ونظرات الشفقة في عيونهم، وآثر النزول الي ميدان العمل، ليعمل، وليعطي الجميع درسا بالغا في كيف يكون طفلا ورجلا في آن، وعندما يتحدث للصحفيين لا يحتاجون منه كلاما كثيرا ليعبر عن أحزانه وحياته التي أصبحت مظلمة بغياب حضن الأم وحنانها ولمسة أيديها التي لامست منذ أن كان طفلا صغيرا، فكانت جملة " أمي ماتت ومات معها كل شئ" هي أبلغ ما كتب طفل في مثل عمره عن أمه، وعندما ينظر اليه الآخرون يكفون هم عن السؤال، فعينيه تقرأ حاله وتصور كم أصبحت حياته أكثر حزنا وقسوة وإنسانية من تلك العبارة التى كتبها فى الامتحان.. ومع عذاباته الإنسانية، لم يكترث أسامة ابن العاشرة برصاص الإرهابيين، ولم يغب يوما عن عمله في مزارع الزيتون، فأخواته ووالده العاجز في أمس الحاجة لكل قرش يتكسبه من عمله في ظل درجة حرارة تذيب الحديد ورطوبة تخنق الصدور، ولكنه ورغم حداثة سنه، يعترف بأنها إرادة الله، حقا ما أحلاك طفلا.
ليس من حقي أن أوجه اللوم للسلطات في مدينة أسامة، فهي بالتأكيد نشطت لمساعدته وإن غاب هذا عن الإعلام، وربما كان الطفل نفسه هو الذي رفض قبول مساعدات أو نظرات شفقة أو إحسان من أحد، لأن الأكيد أنه تعلم من أمه عزة وكبرياء النفس، وهذه هي علامات العفة، وتحسبهم أغنياء من عفتهم.
وإن كنت أعلم يقينا بأن الطفل أسامة ليس يتيما فوالده لا يزال علي قيد الحياة، وإنما يعيش كاليتيم، ومع غياب أمه زاد حزنه علي حزن، ندعو الله أن يوفقه ويرزقه من غير حساب.. ومن هنا انتقل الي قصة أخري، قصة يتحدث عنها إٍسلامنا السمح، قصة تقول لنا وللغرب وأمريكا إن الإسلام ليس هو ما يشاهدونه من عمليات قتل وتدمير علي يد "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية التي تتمسح بديننا البرئ منهم، ونعود للوراء الي مئات السنين لنروي للجميع، لأنفسنا قبل غيرنا، قصة حدثت في بلاد المسلمين الحقيقية، تلك البلاد عندما حكمت بشرع الله عز و جل في عليائه، قصة من القصص الكثيرة في عهد خامس الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي الذي لم يحكم سوي بضعا وثلاثين شهرا كانت أفضل من ثلاثين دهرا، ونشر خلال سني ولايته العدل والإيمان والتقوى والطمأنينة، وعاش الناس في عز لم يروه من قبل. فالخليفة عمر بن عبد العزيز فوجئ بشكاوى من كل الأمصار المفتوحة (مصر والشام وأفريقيا) تتركز في عدم وجود أماكن لتخزين الخير والزكاة من كثرة خيرات الله المتوفرة بها ، ويسألون: ماذا نفعل؟ فيقول عمر بن عبد العزيز: أرسلوا مناديا ينادي في ديار الإسلام: أيها الناس: من كان عاملا للدولة وليس له بيتٌ يسكنه فلْيُبْنَ له بيتٌ على حساب بيت مال المسلمين..ياأيها الناس :من كان عاملا للدولة وليس له مركَبٌ يركبه، فلْيُشْتَرَ له مركب على حساب بيت مال المسلمين..ياأيها الناس: من كان عليه دينٌ لا يستطيع قضاءه، فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين.. ياأيها الناس: من كان في سن الزواج ولم يتزوج، فزواجه على حساب بيت مال المسلمين.
فماذا كانت النتيجة لكل دعوات أمير المؤمنين، النتيجة أن تزوج الشباب الأعزب، وانقضى الدين عن المدينين، وبني بيت لمن لا بيت له، وصرف مركب لمن لا مركب له.. ومن هنا اتساءل بدوري، هل رأينا في أي حضارة ما رأيناه في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز.
انتظروا لم تنته القصة بعد، لماذا؟ لأن الشكوي استمرت من عدم وجود أماكن لتخزين الأموال و الخيرات التي فاضت عن الحد وتضاعفت، فيرسل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى ولاته: "عُودوا ببعض خيرنا على فقراء اليهود والنصارى حتى يسْتَكْفُوا"، فأُعْطُوا، واستمرت الشكوى، فقال: وماذا أفعل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، خذوا بعض الحبوب وانثروها على رؤوس الجبال فتأكل منه الطير وتشبع..حتي لا يقول قائل جاعت الطيور في بلاد المسلمين.
ونحن نتحدث عن بلاد المسلمين زمان، نتذكر بعض الجمعيات الخيرية التي ترفع شعار كفالة اليتيم ثم تستغل أموال المحسنين والصدقات في التربح وزيادة حصصهم في البنوك، غير مبالين بدين ولا برب يري الجميع ويطلع علي ما تخفي القلوب، فلا يتيم أخذ حقه ولا عابر سبيل اقتاد خبزا من أموال المتصدقين والمحسنين، فثمة حكايات يشيب لها الولدان، ونخشي أن نتذكرها ونحن نعيش أيام وليالي هذا الشهر الكريم، شهر البركة والرحمة والمغفرة، وإن كنا نتذكر فقط أن المولي عز وجل أكرم اليتيم وحث علي حسن معاملته وعدم ظلمه، والمولي عز وجل إراد أن يكون رسولنا الكريم يتيما، حتي يضرب به أحسن الأمثلة وأفضلها في تربية اليتيم والإحسان اليه وعدم ظلمه. كما أراد المولي عز وجل أن يضع البلسم على جِراح الأيتام في المجتمع المسلم، فجعل رسولنا الكريم أن ينشأ يتيما، فأكرمه وحاز الكَمال في التربية برِعاية ربنا له، والذي خاطبه في معرض المن والتذكير بالنِّعمة في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).
إن فضل كفالة اليتيم والإحسان اليه ورعايته والاعتناء به ، من أعظم القربات إلى الله تعالى. فإنه لا يصح شرعا أن يحرم هؤلاء مرتين؛ مرة من حنان الأمومة، وعطف الأبوة، وأخرى من رحمة المجتمع ورعايته، ويقول المولي في كتابه العزيز : ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 15] .. فالإحسان الي اليتيم مصدر غني للحسنات كما يقول رسولنا الكريم : (مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّه، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ).
عفا الله عنا وعنكم وجعلنا من المتقين ورمضان كريم...
احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني
amurshed2030@gmail.com