فريد أحمد حسن
الحقيقة التي تشغل بال المعنيين بالأمن في العالم والتي يرون أهمية أن تؤخذ بعين الاعتبار يمكن تلخيصها – كما جاء في التعريف بفكرة المؤتمر الخليجي الاستراتيجي الثاني الذي أقيم في مملكة البحرين الشهر الفائت - في "أن العديد من الدول النامية لا تزال متأخرة في مواجهة المشاريع العالمية وخصوصا ظاهرة الإرهاب الفكري والتطرف التي بدأت في الانتشار عبر الفضاء العالمي الجديد .. وهي ظاهرة تحتاج إلى تكاتف العديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لمعالجتها بصورة عاجلة حتى تتمكن هذه الدول من مواجهة المستقبل بكل متغيراته وتحدياته" ، وهي حقيقة تفرض نفسها على تفكير كل عاقل ، فعندما تزداد مساحة الفضاء الجديد للمعرفة وتتعدد أدواته ويصير بمقدور الجميع من دون استثناء استخدامها – كما هو حاصل الآن مع شبكة الانترنت – فإن الطبيعي هو أن يفكر المتطرفون في توظيفها لخدمة أهدافهم ، فالانترنت وسيلة معرفة مذهلة لكن يسهل استغلالها بشكل سالب من قبل المتطرفين ويمكن من خلالها تجاوز كل القوانين والأعراف التي ظلت تحكم المجتمعات طويلا (البعض يعتقد أن تجاوز القوانين بسبب ثورة المعلومات وتطور أدواتها تحدث أكثر في المجتمعات التي لا تتمتع بقدر كاف من حرية الرأي ولا يحظى فيها الأفراد القدرة على التعبير ، وهذا صحيح إلى درجة كبيرة) .
نحن إذن أمام تقنيات وأدوات متقدمة أوجدت لتسهم في تطوير الحياة وتقدم البشرية ، ولكن بسبب توفرها للجميع وسهولة استخدامها أفرزت ظاهرة سلبية تمثلت في استخدام هذه التقنيات والأدوات من قبل الأفراد والجماعات المتطرفة ، ما ساعد على سهولة انتشار الآيديولوجيات المتطرفة وبروز الجماعات ما دون الدول ، فكل هؤلاء يستخدمون الأدوات الرقمية المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وصاروا "يتفننون" في استخدامها ولم يعد بالإمكان منعهم إلا من خلال المراقبة والحظر اللذين صار أيضا سهلا عليهم تجاوزهما إلى حد كبير .
المشكلة فعلا كبيرة ، ذلك أن القصة لا تنتهي هنا ، فالمستهدف بالنسبة لأولئك المتطرفين – أيا كانت صيغهم – هم الشباب الذين بحكم أعمارهم وتعليمهم يعتمدون على هذه الأدوات الرقمية ، أي أن طريق المتطرفين إلى عقول الشباب لبناء فكرهم وثقافتهم ومعارفهم صار سهلا يسيرا ، واليوم يعرف الجميع كيف تمكن المتطرفون من تجنيد آلاف الشباب العربي المسلم في تنظيمات مسلحة وكيف تمكنوا من إدارة عقولهم ودفعهم إلى التهلكة .
عبر تلك الأدوات الرقمية - التي فرح بها محبو الإنسانية لمعرفتهم أنها يمكن أن تحدث نقلة نوعية في الحياة – تمكنت الجماعات المتطرفة على اختلافها من الترويج لنفسها والعبث بعقول الشباب في الكثير من الدول حتى أوصلتهم إلى مرحلة تنفيذ العمليات الإرهابية وقتل الأبرياء والمختلفين معهم فكريا بدم بارد وبطرق بشعة لم يشهدها التاريخ من قبل . ساعد على ذلك طبعا "غياب البدائل المعتدلة والأفكار النيرة التي تواكب التقدم الحضاري" .
في المؤتمر المذكور اتفق المشاركون على أن الجماعات المتطرفة "نجحت في تحقيق هدفين رئيسين ؛ نشر أفكارها وآيديولوجياتها المتطرفة بين الشباب لتشويه المفاهيم الدينية الشرعية مثل الجهاد والولاء والتكفير ، وتجنيد أعداد متزايدة من الشباب بغض النظر عن موقعهم الجغرافي سواء كانوا في الدول العربية أو الدول المتقدمة ، وذلك عن طريق الأدوات والوسائل الرقمية الحديثة" ، وهذا يعني أن المشكلة ليست مفترضة ولكنها حقيقية وواقعة ، فالمعنيون بالأمن لا يفترضون أن بإمكان الجماعات المتطرفة أن تستغل الأدوات والوسائل الرقمية الحديثة لخدمة أهدافها ولكن يؤكدون نجاحها في هذا الأمر ، وما يحدث حاليا في العديد من الدول هو نتيجة ذاك الاستغلال السيء لأدوات المعرفة التي أريد منها تطوير الحياة وخدمة الإنسانية .
من دون مبالغة ولا مجاملة يمكن القول إن أي اثنين في العالم لا يختلفان على أن تلك الجماعات المتطرفة لم تتمكن حتى الآن من اللعب بعقل الشباب العماني رغم كل النجاح الذي حققته في اللعب بعقول الشباب في مختلف دول العالم ورغم كل الخبرات التي اكتسبتها في هذا المجال ، أما الأسباب فعديدة أبرزها أن المجتمع العماني يقوم على أساس ديني واجتماعي قوي ، وأفراده يتمتعون دائما بقدر كاف من حرية الرأي والقدرة على التعبير والوقوف على مسافة واحدة من كل شيء ، فإذا أضيف إلى كل هذا النشأة السليمة وما حققه صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم من نجاح في تحصين عقل الإنسان العماني وخصوصا الشباب منه ليكون قادرا على مواجهة كل ما قد يؤثر سلبا على المجتمع فإن هذا يعني أنه لن يكون بمقدور الجماعات المتطرفة –في المنظور القريب على الأقل – من تحقيق أي اختراق تتمكن به من العبث بعقول الشباب العماني .
ومع هذا يصعب القول إن أمرا كهذا مستحيل الحدوث ، ذلك أن التطور العلمي ليس له حد ولا يمكن منعه ، أي أنه يمكن للجماعات المتطرفة أن تستفيد من كل جديد ومتطور يأتي في أي وقت ، كما يمكن للدول العظمى أن توظف كل هذا الجديد وكثيرا من تلك الجماعات لخدمة مصالحها ، ف"الواقع المعاش يبين أن العالم الجديد بأقطابه المتعددة فضاء في طور الإنشاء والتشكل" كما توصل المشاركون في ذلك المؤتمر المهم ، الأمر الذي يدعو المعنيين في مختلف البلاد العربية والإسلامية إلى الاستنفار وتوقع حتى غير المتوقع ، فالمستقبل في مثل هذه الأحوال يكون غامضا ومواجهة التحديات والمتغيرات في مثل هذه الظروف ليست سهلة وتحتاج إلى تكاتف الجميع .
كاتب بحريني