الجزائر- العمانية
تنتشر المساجد التاريخية في الجزائر العاصمة، ولعلّ مسجد "علي بتشين" الواقع بالقصبة أحد أقدم تلك المساجد، إذ تمّ تدشينه سنة 1622 بأمر من القائد الإيطالي بتشينيو، ولذلك قصته لا تزال كتب التاريخ تروي تفاصيلها إلى اليوم.
وتكشف المراجع التاريخية أنّ القائد الإيطالي بتشينيو تخلّى عن ديانته المسيحية واعتنق الإسلام على يد رفيقه القائد فتح الله بن خوجة بن بيري سنة 1599، وصار اسمه بعد إسلامه علي بتشين، ومن بين المآثر التي تركها هذا المسجد الذي يحمل اسمه.
يتربّع مسجد علي بتشين على مساحة تقدَّر بـ 500 متر مربع، وهو عبارة عن مؤسّسة مكوّنة من ثلاثة طوابق تضم سبعة عشر حانوتاً وثلاث غرف وفرناً وحماماً وطاحونة وفندقاً، كان يسهر عليه فريق عمل يتكوّن من وكيل ومؤذن وإمام وحزّاب وخطيب وكنّاس وثلاثة مؤذنين في الدّاخل وباش مؤذن.
وعلى ما تذكر المراجع التاريخية، فإنّ اسم المسجد استُبدل سنة 1703 بحيث صار يحمل اسم وكيله "سيدي المهدي".
ويتميّز المسجدُ الواقع في القصبة بكونه بُني فوق محلات تجارية، كما يتميّز عن سواه من المساجد بهندسة معمارية فريدة، إذ ترتفع قاعة الصلاة فيه عن سطح الأرض بحوالي 5-6 أمتار، لتفسح المجال لقيام نشاط تجاري أسفلها عبر عدد من المحلات، لعلّ أهمّها الحمّام المعروف الذي استمرّ وجوده حتى السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر.
وكان مؤسّس المسجد علي بتشين، قد وقع أسيراً في قبضة البحرية الجزائرية، ثم أسلم وأصبح خلال سنوات من وجهاء مدينة سيدي عبد الرحمن، وارتقى في سُلَّم الرتب العسكرية البحرية الجزائرية إلى أن صار من كبار ضباطها، قبل أن يتولّى قيادتها العامة في النصف الأول من القرن 17 للميلاد، وحاز لقب "الرايس" علي بتشين، وهي رتبة تعادل "الأميرال" في العصر الحديث.
تزوّج الرايس علي بتشين من إحدى بنات سلطان جبل "كوكو"، فدعَّم نفوذه بتعاطف منطقة القبائل وتضامنها معه. وبفضل هذه المصاهرة، أصبح بتشين الرجل الأقوى بامتياز في "دار الجهاد"، حيث تحدّى السلطان العثماني في ذلك الوقت وأثار ارتباكه إلى الحد الذي دفع بالأخير إلى إرسال فرقة خاصة إلى الجزائر للقضاء عليه سنة 1644، لكن دون جدوى.
ولم ينته مسلسل عصيان بتشين عند هذا الحد، بل سرعان ما قاد انقلاباً عسكرياً بمساعدة بعض قبائل فليسة، لم يُكتب له النجاح، ضد باشا الجزائر الذي عيّنه السلطان، ودخل في تمرُّد ومواجهة صريحة ضد الباشا إلى أن اغتيل مسموماً بحسب المصادر التاريخية، في بداية خمسينات القرن السابع عشر.
ويُسجّل التاريخ أنّ هذا المسجد بقي شاهداً يتحدث عن مآثر مؤسّسه بعد وفاته، شامخاً بمئذنته رغم أن الاستعمار الفرنسي شوّه شكلها وقلّص ارتفاعها من 15 متراً إلى بضعة أمتار فقط، ورغم أن الفرنسيين حوّلوا المسجد منذ 1830 إلى صيدلية مركزية تابعة لجيش الاحتلال، قبل أن يُلحقوه بالهياكل الدينية المسيحية بحيث بات يُعرف فيما بعد باسم "كنسية نُوتْردامْ دُو لافيكْتْوار" مع إجراء تغييرات مسّت معالمه بشكل أفقده روحه المعمارية الإسلامية.
والمثير في قصة هذا المسجد أنّ المحتلّين الفرنسيين عندما حوّلوه إلى كنيسة استولوا على باب جامع كتشاوة الذي أبدع في صنعه ونحته أحد كبار حرفيي الجزائر العاصمة آنذاك، ليُزيّنوا به كنيستهم الجديدة على حساب المقدّسات الإسلامية.
وفي سنة 1962، التي تمثّل تاريخ استقلال الجزائر، عاد مسجد علي بتشين إلى حضن الإسلام بوصفه وقفاً إسلامياً، وتمّ نزع الصليب من المئذنة، وها هو صوت المؤذن يعلو خمس مرّات في اليوم داعياً جموع المسلمين إلى الصلاة.