بين دراما الواقع ودراما التلفزيون

مقالات رأي و تحليلات السبت ١١/يونيو/٢٠١٦ ٢١:٠٢ م
بين دراما الواقع ودراما التلفزيون

زاهي وهبي
ما من شك في أن الدراما التلفزيونية العربية قدمت في مراحلها المختلفة أعمالاً مهمة لجهة مضامينها وتقنياتها ورؤى صنّاعها من مؤلفين وكتّاب سيناريو ومخرجين ومنتجين، ما جعلها تحفر مكاناً راسخاً في ذاكرة المشاهدين ووجدانهم . الملاحظة الأبرز التي تبقى ماثلة أمامنا هي أن الكم يطغى على حساب النوع، والأعمال التي ترقى الى مستوى أحلامنا وطموحاتنا أقل بكثير مما هو متوقع ومأمول قياساً بالأعمال ذات الطابع التجاري البحت. صحيح أن الدراما التلفزيونية تهدف بالدرجة الأولى الى إمتاع المشاهد ومؤانسته، لكن المتعة الحقيقية تكون أجمل وأعمق كلما اقترنت بمضامين وأبعاد انسانية، واقتربت من دواخل النفس البشرية، ليس فقط الدواخل العامة المتعلقة بحالات العشق والغرام والانتقام وشهوات المال والسلطة، بل أيضاً الدواخل والهموم المتعلقة بالانسان العربي الذي يواجه تحديات غير مسبوقة وتعصف به أسئلة وجودية لا عَدَّ لها ولا حصر نتيجة للحروب والأزمات الطاحنة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً و...، لهذا نرى أن المسلسلات التي أُخِذَت عن أعمال روائية عربية مهمة لكتّاب كبار مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف ادريس وبهاء طاهر وحنا مينة وممدوح عدوان وتوفيق يوسف عوّاد عالجت في حينه قضايا زمنها ومرحلتها، كانت هي الأعمق والأكثر نجاحاً حتى لو فشّل بعض المخرجين أحياناً في تقديم مسلسل يرتقي الى مصاف الرواية المأخوذ منها. فالعمل الأدبي المكتوب تبقى له روحٌ من الصعب الإمساك بها كلياً ودائماً، الا أن الأعمال الروائية الفاشلة أو المخيبة للآمال قليلة نسبياً قياساً بتلك التي نجحت واستقطبت المشاهدين.
من آفات الدراما التلفزيونية العربية لجؤها غير المبرر الى الاقتباس (وهو ليس مرفوضاً بالمطلق)، والإكثار من الأعمال المأخوذة عن عروض أجنبية تلفزيونية وسينمائية. والأخيرة حقاً مشكلة، اذ من الصعب تحويل فيلم سينمائي مدته ساعة ونصف الساعة أو ساعتين، ومَطَّه ومَدَّه على مدار ثلاثين ساعة بهدف عرضه في شهر رمضان المبارك، وشهدنا مؤخراً كيف أن المسلسلين العربيين المأخوذين عن فيلم "العرّاب" الناجح والشهير بأجزائه المتعددة، لم ينالا النجاح المتوقَّع على الرغم من حشد النجوم في العملين، وأغرب ما في الأمر هو لجوء شركتي انتاج الى اقتباس الفيلم نفسه في الوقت ذاته، وكأن الدنيا خلت الا من "العرّاب". الغرابة تزول لدى الاطلاع على كواليس الانتاج التلفزيوني الذي لا يخضع فقط لمعايير فنية ومهنية بل تدخل السياسة في صلب خلفياته ومنطلقاته، فضلاً عن الهمِّ التجاري الذي سبقت اليه الإشارة.
الإقتباس بذاته ليس عيباً ولا آفة، هو حاجة ضرورية ومطلوبة انفتاحاً على العالم وتفاعلاً معه وتمازجاً للثقافات التي تنمو وتزدهر بالحرية والرحابة والانفتاح، العيب هو الإتكال أكثر مما ينبغي على الاقتباس والتقليد، كما هو حاصل في "استنساخ" مسلسلات فنزويلية ومكسيكية وتركية وسواها، واهمال الكنوز الابداعية للروائيين العرب القدامى والحديثين، خصوصاً تلك المنطلقة من صميم الواقع العربي. إذا أضفنا هذه المَثلبة الى آفة التطويل وطغيان الكم على حساب النوع نفهم ساعتها أكثر أسباب انحسار نسب المُشاهَدة للأعمال التلفزيونية، وانصراف كثير من المشاهدين الى الميديا الحديثة أو البديلة بحثاً عمّا يرضيهم ويخاطب عقولهم ويلامس وجدانهم ويلبي ذائقتهم.
هنا نعود الى ما طرحناه الأسبوع الائت بخصوص الفضائيات العربية وَمِن خلفها شركات الانتاج الكبرى الخاضعة لسيطرة رأس المال أو لتوجيهاته أو الساعية لنيل ودِّه ومرضاته لأنها غير قادرة على العيش والاستمرار من دونه. ما نحتاجه حقاً هو وجود منتِج متنوِّر يحمل همّاً ثقافياً معرفياً تنويرياً الى جانب الهمّ الاستثماري أو المالي. فالدراما التلفزيونية صناعة ولا يعيبها أن يحمّل صنّاعها همَّ المردود المادي، ما يعيب هو جعله همّاً واحداً أوحداً.
بدون وجود منتجين متنورين ستبقى صناعة الدراما العربية فريسة شركات الانتاج العملاقة التي تُقدِّم الهاجس الاستثماري على ما عداه، وتُنتِج أعمالاً انطلاقاً من خلفيات وأجندات سياسية هدفها توجيه الرأي العام وصرف انتباهه في أحيان كثيرة عن قضاياه الأساسية والجوهرية، أو ما أسميناه في مقالة الأسبوع الفائت: تجويف الوعي وتسطيح العقول.
مسألة أخرى نشير اليها سريعاً، نعود لاحقاً الى تحليلها بإسهاب، هي بثّ معظم الانتاج التلفزيوني الدرامي في شهر رمضان المبارك الذي بلا شك له خصوصية تجمع الأسرة عند المساء وترفع نسبة مشاهدتها للتلفزيون، لكن هل يعقل أن يُعرَض ثلاثون مسلسلاً في ثلاثين يوماً؟ هل لدى المشاهدين كل هذا الوقت للجلوس قبالة التلفزيون؟ جميل التنافس الدرامي في الشهر الكريم، التسابق لكسب رضى المشاهدين قد يساهم في رفع السوية الابداعية للأعمال المنتَجة انطلاقاً من رغبة البثّ خلال الفترة نفسها ما يجعل المنافسة أشدّ وأقوى، لكن الخشية المحقَّة هي من ما أشرنا اليه أعلاه: طغيان الكم على حساب النوع.
ثمة غربة كبيرة عن الواقع العربي تعيشها الدراما التلفزيونية العربية. هذا الانطباع العام لا يمنع وجود أعمال تلامس هموماً حقيقية وتطرح قضايا من صلب حياتنا اليومية، بعضها يُبَثّ حالياً على الشاشات. لن ندخل الآن في تعداد عناوين المسلسلات التي نرى أنها أقرب الى واقعنا ووجداننا وتطرح بعضاً من آمالنا وآلامنا، اذ سنعود تباعاً خلال ما تبقَّى من الشهر الفضيل لمتابعة ما تفضلت به علينا الشاشات العربية وَمِن خلفها شركات الانتاج التي سنظلّ نحثّها على تقديم الأفضل، وعدم الخوف من طرح الموضوعات الشائكة والحسّاسة مثل الارهاب والتطرف والتكفير والطائفية والمذهبية والانقسامات المجتمعية والقمع والاستبداد والتطرف والجهل والأمية والبطالة والفقر، وما ينتج حاضراً وسوف ينتج مستقبلاً عن الحروب الدموية التي تلتهم نيرانها عدداً من بلداننا العربية، وتلتهم معها أرواحَ أبرياءٍ لا ذَنْبَ لهم ولا جريرة، وأحلامَ شبابٍ وتطلعاتِ شعوب، وحبذا لو تطرح "درامانا" التلفزيونية أسباب الدراما المأساوية التي تدور على أرض الواقع العربي وتجعلنا قاصرين عن اللحاق برَكب الأمم. نعم، ثمة أعمالٌ فعلت، لكن المطلوب أكثر.