انقلاب ألمانيا على التجارة

مقالات رأي و تحليلات السبت ١١/يونيو/٢٠١٦ ٢٠:٥٣ م
انقلاب ألمانيا على التجارة

مارسيل فراتزكر

توشك نافذة فرصة إتمام اتفاق شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي (TTIP) بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الانغلاق سريعا. فسوف تُعقَد الانتخابات الوطنية في العام الحالي والتالي في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، وستعمل الحملات الانتخابية في بيئة تزداد عدائية تجاه الاتفاقات الدولية بأي صورة كانت. ربما يأتي الخطر الأكبر من المصدر المستبعَد أكثر من غيره: ألمانيا، وهي أحد مراكز التصدير القوية.
في الوضع الحالي، يعارض حوالي 70% من المواطنين الألمان شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي، وهو ضعف المتوسط في الدول الأوروبية الأخرى تقريبا. فهُم يصدقون بدرجة كبيرة أن ألمانيا لن تنتفع اقتصاديا، وأن أجور العمال ذوي المهارات الأقل ستتأثر، وأن الشركات الكبيرة ستكتسب نفوذا على حساب المستهلكين، وأن حماية البيانات والحماية البيئية ستخضعان للمساومة، وأن حقوق المواطنين ستتضرر.
ولكن قد أثبت عدد كبير من الدراسات أن كل هذه الادعاءات مبالغ فيها أو خاطئة تماما. ففي الحقيقة، ستكون ألمانيا ــ التي كان تقدمها الاقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مدفوعا بانفتاحها الثابت على التجارة الدولية والتكامل الاقتصادي، والتي ما تزال واحدة من أكثر الاقتصادات المنفتحة والمعتمدة على التجارة في أوروبا ــ من بين المنتفعين الأساسيين من شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي.
من المتوقع أن ترفع شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي الدخل السنوي للفرد في ألمانيا بنسبة من 1% إلى 3%، أو من 300 إلى 1000 يورو سنويا بحلول عام 2035. إضافة إلى ذلك، فمع ارتباط 50% تقريبا من الوظائف الألمانية بالقطاع القابل للتداول ارتباطا مباشرا أو غير مباشر، فستساعد الاتفاقية كذلك في حماية العمالة. وبتعزيز قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على تحديد معايير تجارية عالمية، ستزداد القدرة التنافسية الدولية للشركات الألمانية. ليس كل فرد أو شركة في وضع يسمح لها بالاستفادة من شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي، ولكن الأثر الصافي على اقتصاد ألمانيا ومواطنيها سيكون إيجابيا بصورة واضحة.
لماذا إذا يعارض الكثير من الألمان الاتفاقية؟
أحد الأسباب هو أن نجاح ألمانيا الاقتصادي الواضح قد زاد نفورها من التغيير. إذ لم تتحمل الدولة الأزمة المالية العالمية في عام 2008/2009 وأزمة الديون السيادية الأوروبية فقط، بل ازدهرت في الحقيقة في السنوات الأخيرة، فشهدت نموا قويا للناتج المحلي الإجمالي وزيادات مذهلة للأجور. كما انخفض معدل البطالة إلى النصف منذ عام 2005، محققا انخفاضا قياسيا اليوم إلى 4.6%، وقد ارتفع فائض الحساب الجاري لديها إلى نسبة مدهشة من الناتج المحلي الإجمالي بلغت 8%.
لقد ولَّد إحساس ألمانيا بأنها النجم الاقتصادي في أوروبا سكونا سياسيا، مما أوصل البلاد إلى جمود تام تقريبا فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية. بينما يبحث معظم الأوروبيين بشدة عن أي فرصة لإخراج بلادهم من الأزمة، لا يرى الألمان سببا جيدا للتدخل بالوضع القائم المزدهر ظاهريا.
لسوء حظ ألمانيا، ليس مسارها الحالي سلسا وآمنا كما يحب الناس أن يعتقدوا. ففي الحقيقة، واكبت ألمانيا منذ عقدها الضائع في بداية الألفية حين كانت «رجل أوروبا المريض» الاقتصادات المتقدمة الأخرى في بعض الجوانب فقط. ما زال لدى ألمانيا أحد أقل معدلات الاستثمار العام والخاص بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وستتلقى ضربة أقوى من معظم الآخرين بفعل التحول الديموغرافي الكبير على مدار العقد المقبل. إضافة إلى أن شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي ستوفر دعما اقتصاديا آنيا، فهي ستساعد ألمانيا في الصمود أمام التحديات التي تواجهها على المدى الأبعد.
وكذلك تعكس معارضة ألمانيا شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي الطفرة الحديثة في الشعور القومي والشعبوي في مناطق كثيرة من العالم الغربي. تبدو جاذبية مثل هذه القوى واضحة خصوصا في الاتحاد الأوروبي، نظرا إلى التصور الشعبي بأن التكامل الأوروبي قد أضعف السيادة القومية وترك المواطنين خاضعين لقرارات يتخذها تكنوقراطيون غير منتخبين. آخر ما يريده العديد من الأوروبيين هو مجموعة أخرى من القواعد فوق الوطنية، التي تصاغ خلف الأبواب المغلقة، والتي تحكم اقتصاداتهم.
يتسم هذا الشعور بالحدة على نحو خاص لدى الألمان، الذين ما يزالون يشعرون بالمرارة لكونهم أمين خزانة أوروبا خلال الأزمة كما يرون. الآن، يخشى بعضهم أن تكون شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي مجرد خدعة أخرى، يُقصَد بها استغلال قوة ألمانيا الاقتصادية وسخائها. ولن يكون التغلب على هذا الخوف عملا سهلا.
السبب الثالث لمعارضة ألمانيا شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي هو أن البلاد منخرطة بالفعل في معركة من أجل إعادة توزيع الثروات. لدى ألمانيا حاليا أعلى مستوى من التفاوت في الثروة الخاصة في منطقة اليورو، وقد شهدت زيادة حادة في التفاوت في الأجور على مدار العقدين الفائتين.
في الحقيقة، يتنبأ الكثير من الألمان بزيادة أكبر في عدم المساواة. إذ لا يتعرض الحد الأدنى للأجور للتحايل على نطاق واسع فحسب، بل إن بعض الساسة استغلوا المخاوف من تدفق اللاجئين الحالي للفوز بالأصوات، زاعمين أن الانفتاح أمام الأجانب سيزيد عدم المساواة سوءا.
مما يعقد تحرير الألمان من وهمهم الإحساس ــ الذي يتقاسمه كثيرون في أوروبا وأماكن أخرى ــ بأن النظام «مزيف». إذ حصل مديرو فولكس فاجن على علاوات ضخمة هذا العام، رغم الفضيحة العالمية التي تسببت فيها جهود الشركة من أجل التملص من معايير الانبعاثات على مدار سنوات. وقد كشف تسريب أوراق بنما عن كيفية تهرب الأكثر ثراء من سداد الضرائب. ومن ثم فمن جانب النقابات العمالية وغيرها، لعبت المزاعم بأن شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي ستفيد الأثرياء بالأساس على الوتر.
يمكن لاقتصاد معتمد على التجارة الاستفادة كثيرا من التجارة الأكثر حرية، خاصة مع وجود سوق كبيرة بحجم الولايات المتحدة. ينبغي للألمان استغلال نفوذهم السياسي لدفع نظرائهم الأوروبيين نحو إتمام الاتفاقية. ولكن من المستبعد أن يدفع قادة ألمانيا نحو صفقة غير محبوبة، بعد أن سجلت شعبية أكبر حزبين سياسيين في البلاد، وهما الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والديمقراطيون الاجتماعيون، انخفاضا سريعا. وهذه أخبار سيئة للجميع، وللألمان خاصة.

الرئيس السابق لإدارة تحليل السياسات الدولية في البنك المركزي الأوروبي