الغنوشي.. وميراث الاسلام السياسي !

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٨/يونيو/٢٠١٦ ٢٠:٢٧ م
الغنوشي.. وميراث الاسلام السياسي !

علي ناجي الرعوي

لم يكن سهلا على الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الاسلامية بتونس ان يظهر ناقدا لتجربة تيارات الاسلام السياسي في المنطقة العربية وهو من كان يوصف بالاخواني الملتزم الذي استنار في حياته الفكرية بموروث حسن البنا والسيد قطب بعد ان اختطفته الحركة الناصرية اثناء الدراسة في دمشق ناهيك عن انه من اضاع ما يقارب اربعه عقود حتى يقتنع بان لا مفر من فك الارتباط بين الديني و السياسي وهي الفكرة التى بدت اكثر تعقيدا وتلغيما لدى بعض التيارات الاسلامية التى لجأ رموزها الى مهاجمة الغنوشي واتهامه بأنه من اسرف في عملية مراجعته لتجربة الاسلام السياسي كتجربة حركة الاخوان في مصر والسودان و الجزائر وحركة حماس في قطاع غزة وغيرها من الحركات العربية ليحملها بما لا تقوى على حمله.
ازعم ان الشيخ راشد الغنوشي حينما اتجه الى اقناع قادة حركة النهضة التى يتزعمها بنواياه فى تحويل الحركة من حركة دعوية الى حزب سياسي مدني كان مدركا ان مراهنة كهذه لن تكن مقبولة عند الدعاة الذين تعززت لديهم القناعة بأن السياسة جزءا من تكوينهم العقلي هذا ان لم تكن السياسة هى احدى سمات ايمانهم وانه _أي الغنوشي _ لن يرحمه ناقدوه والمتربصين به والمتصيدين له ومع ذلك لم يأبه بكل ذلك لكونه الذي خلص من دروس السنوات الخمس الفائتة التى اعقبت (الربيع العربي) من ان طموح حركة النهضة في الوصول الى السلطة لم يبن على قاعدة راسخة لذلك كانت السلطة بالنسبة لها بمثابة امتحان عسير برهنت سنواته على ان المجتمع التونسي ليس جاهزا لاحتمال حكومة تشكلها حركة اسلامية دعوية تؤمن بالمطلق بأن الجميع من حولها مخطئون كما يفهم المواطن العادي بعد ان ساهم الاسلام السياسي في تكوين هذه الصورة بمخيلته سيما وهو الذي يجد ان مبدأ الفصل بين الحزب الذي يباشر النشاط السياسي والجماعة التى تركز على المهام التربوية والدعوية هو مبدأ يجري القفز فوقه عن طريق التداخل بين الديني والسياسي على الرغم من ان غاية اصحاب الرسالات الدعوية تتجاوز حدود السلطة وفي حالات كثيرة الافتتان بالمناصب ولعبة السلطة.
هذا ما فهمه الشيخ الغنوشي وما سمعه ايضا من نبض الشارع التونسي بمجرد ان اقتربت حركة النهضة من مقاعد السلطة وكذا ما استنبطه من متابعته لتجربة حركة الاخوان في مصر التي وصلت الى السلطة بعد اكثر من 80 عاما الا انها سرعان ما تهاوت من راس المنظومة بفعل افتقادها للخبرة السياسية و الادارية والاقتصادية التى تسمح لها بالاستمرار في حكم بلد بحجم مصر ومع ان الغنوشي وحركة النهضة كانا بوسعهما التمسك في السلطة وفق مفهوم (الغاية تبرر الوسيلة) الا انهما فضلا الخروج من الحكم طوعا والتفرغ لإعادة البناء الداخلي على امل اعادة الكرة باستعداد ووعي افضل.
بعد المؤتمر العاشر لحركة النهضة الذي اقر مشروع التحول الى حزب سياسي قال راشد الغنوشي : الان استطيع ان اقول ان حركتنا قد تطورت من حركة اسلامية شمولية الى حزب سياسي مدني يجمع في مرجعيته بين القيم الحضارية للأمة الاسلامية والمعاني العصرية وهو تطور حسب الغنوشي اصبح من الضرورات الملحة بعد التغيرات التي شهدتها المجتمعات الانسانية ومن ذلك سقوط الحركات الشمولية اكانت شيوعية او قومية او دينية وتأكيدا على هذه الضرورة فانه الذي اعتبر رفض التحديث والانكفاء على اوامر السمع والطاعة خطأ جسيما يعرض التيارات الاسلامية للتآكل والانهيار ان لم يدفع بها الى غياهب الجهالة وفقدانها لأسباب البقاء وكأنه بذلك يدعو تيارات الاسلام السياسي الى الاسراع في اعادة تقويم نفسها ومراجعة ميراثها الذي يقوم على الخلط بين النشاط السياسي والنشاط الديني بعد ان برهنت كل الوقائع ان استغلال الدين لاغراض سياسية او رهن الدين بالسياسة يظلم الدين ويفسد السياسة.
ما تحدث عنه راشد الغنوشي وهو (الاسلاموي) الذي خاض الكثير من النقاشات والجدل حول متطلبات العقائد والاصول في الاسلام ومتطلبات الادارة السياسية ومناشط العلاقات المتقاطعة بين الاسلام ومعطى العمل السياسي فضلا عن انه الذي لم يكن طارئا على فكر ونهج تيارات الاسلام السياسي في المنطقة العربية لاشك وانه قد بعثر الكثير من الاوراق هذا ان لم يكن قد رمى حجرا في بئر عميقة اذ انه بمشروعه التحولي يضع ظاهرة الاسلام السياسي امام احد المسارين : اما الاستجابة لمراجعة مرتكزاتها الفكرية والإيديولوجية واستيعاب مقتضيات العصر وإما الانزواء والاضمحلال وترك الساحة لقوى التطرف والفرق الجهادية التي تدعي انها النسخة الاصلية للإسلام وما بين المسارين يصبح الامر اشد خطرا ونحن نجد ردود فعل الناشطين الاسلاميين في تيارات الاسلام السياسي على مشروع الغنوشي لم تكن مبشرة او مطمئنة على الاقل حيث لم نر من يتحدث عن اهمية النقد الذاتي لتجربة الحركات الاسلاموية ولماذا اخفقت في حماية مجتمعاتها من التيارات المتطرفة وحماية الدين من تلك المفاهيم التي تميل الى التطرف والتكفير والإقصاء والدعوة الى قتل الاخر ؟ اذ انه وبدلا من القيام بتلك المراجعة العقلانية برزت الكثير من الانفعالات والحالات المأزومة التي تحاول الاساءة للغنوشي ووصفه بالاسلاموي المتلون او بأنه من يسعى الى صناعة (اسلام اوروبي) يأتي بشكل مختلف جذريا عن الاسلام الذي تدين به غالبية الامة الاسلامية.
ما طرحه الشيخ راشد الغنوشي سيبقى تحديا حتى اشعار اخر ويتمثل هذا التحدي في حدود وطبيعة الدور الذي ستقوم به حركة النهضة بعد تحولها الى حزب سياسي في المرحلة المقبلة والى أي مدى سيكون ذلك الدور فاعلا في مواجهة قوى التطرف التي تنشط في تونس وتأثير ذلك في تحفيز حركات الاسلام السياسي على القيام بتحديث نفسها وإعادة لملمة الخيوط التي مزقتها رياح التحولات هذا ان لم يخرج علينا من يكفر الغنوشي ويتهمه بالارتداد عن الملة.

كاتب يمني