الخداع عبر المحيط الهادئ

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٦/يونيو/٢٠١٦ ٢٣:٤٥ م
الخداع عبر المحيط الهادئ

جومو كوامي سوندارام

يجري تصوير اتفاقية التجارة "الشراكة عبر المحيط الهادئ" وكأنها عطية مباركة للدول المشاركة (12 دولة). ولكن معارضة هذه الاتفاقية ربما تكون القضية الوحيدة التي يتفق عليها المرشحون الباقون في السباق الرئاسي في الولايات المتحدة، كما أعرب وزير التجارة الكندي عن تحفظات جدية حول الاتفاقية. تُرى هل يتبنى منتقدو الشراكة عبر المحيط الهادئ موقفا غير عقلاني؟
الإجابة في كلمة واحدة هي "كلا". من المؤكد أن الشراكة عبر المحيط الهادئ ربما تساعد الولايات المتحدة في تعزيز هدفها المتمثل في احتواء نفوذ الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والذي تمثل في إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما أن "الصين في ظل الشراكة عبر المحيط الهادئ لا تستطيع أن تضع القواعد في تلك المنطقة؛ بل نحن الذين نضعها". ولكن الحجة الاقتصادية ليست على نفس القدر من القوة.
من ناحية المكاسب، توقعت إحدى الدراسات التي أجرتها حكومة الولايات المتحدة حول هذا الموضوع أن تعمل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ بحول عام 2025 على زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الأعضاء بما لا يتجاوز 0.1% على الأكثر. وفي وقت أقرب إلى الحاضر، أشارت تقديرات لجنة التجارة الدولية في الولايات المتحدة إلى أن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنها أن تزيد النمو الاقتصادي الأميركي بحلول عام 2032 بنحو 0.15% (42.7 مليار دولار) وأن تعزز الدخول بنحو 0.23% (57.3 مليار دولار).
ولكن أنصار الشراكة عبر المحيط الهادئ تجاهلوا إلى حد كبير هذه النتائج، مفضلين الاستشهاد بدراستين صادرتين عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو من أشهر مشجعي العولمة الاقتصادية. ففي عام 2012، زعم معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنها أن تعزز مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأعضاء بنحو 0.4% بعد عشر سنوات. وفي يناير، أعلن المعهد أن الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنها أن تعزز مجموع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.5% على مدار السنوات الخمس عشرة المقبلة. وفي دراسة للبنك الدولي صادرة في نفس الشهر، توقع نفس المشاركين في بحث معهد بيترسون للاقتصاد الدولي زيادة بنسبة 1.1% في المتوسط في الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأعضاء في الشراكة عبر المحيط الهادئ بحلول عام 2030.
من الواضح أن شيئا ما خاطئ تماما. إذ تكشف النظرة المدققة أن النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسات بشأن الفوائد المزعومة المترتبة على الشراكة عبر المحيط الهادئ تفتقر إلى أي نظرية اقتصادية داعمة، أو نماذج ذات مصداقية، أو دليل تجريبي. والمزايا الوحيدة المقدمة التي تتفق مع المنهجية الرئيسية للبحث هي الفوائد التجارية المرتبطة بالرسوم الجمركية. ولكن إذا كان باحثو معهد بيترسون للاقتصاد الدولي استخدموا أساليب تقليدية لتقدير مجموع المكاسب من التجارة، فإن مثل هذه الفوائد كانت لتشكل حصة صغيرة للغاية من المكاسب المزعومة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. ووفقا لمعهد بيترسون للاقتصاد العالمي والبنك الدولي، فإن ما يقرب من 85% من إجمالي النمو الناتج عن اتفاقية الشراكة يرجع إلى "تدابير غير تجارية" واستثمارات أجنبية مرتبطة بها.
من ناحية أخرى، تتجاهل الدراسات تشغيل العمالة وتوزيع الدخل ــ حيث تكمن بعض المخاطر الرئيسية الناجمة عن تحرير التجارة. وبدلا من ذلك، تفترض الدراسات ببساطة التشغيل الكامل للعمالة في كل الدول، وتناغم توزيع الدخل والتوازن التجاري والوضع المالي في كل البلدان.
تتوقع اللجنة التجارية الدولية، التي استخدمت نموذجا مختلفا بعض الشيء، زيادة في العجز التجاري من شأنها أن تدمر أكثر من 129 ألف وظيفة أميركية (ولكنها برغم هذا، وعلى نحو مبهم، تقدر أن الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنها أن تزيد من فرص العمل بنحو 128 ألف وظيفة). كما تتوقع زيادة في صافي الصادرات بنحو 25.2 مليار دولار بحلول عام 2032 (بقيمة الدولار الأميركي في عام 2032)، وهذا جزء صغير من توقعات دراسة معهد بيترسون التي بلغت 357 مليار دولار بحلول عام 2030 (بقيمة الدولار في عام 2015).
في دراستنا، استخدمت أنا وزملائي تقديرات معهد بيترسون في عام 2012 للمكاسب المرتبطة بالتجارة، برغم تحفظاتنا، جنبا إلى جنب مع مواصفات اقتصادية أكثر واقعية، بما في ذلك ما يرتبط بتوزيع الدخل وتشغيل العمالة. وقد توقعنا ضغوطا تدفع الأجور نحو الانخفاض، والتي من شأنها أن تؤدي من خلال إضعاف الطلب المحلي إلى انخفاض معدلات تشغيل العمالة واتساع فجوة التفاوت في كل مجموعات البلدان. وقد يبلغ مجموع الخسارة المتوقعة للوظائف نحو 771 ألف وظيفة في مختلف بلدان الشراكة عبر المحيط الهادئ، بما في ذلك 448 ألف وظيفة في الولايات المتحدة وحدها. وهذه الخسائر كافية لمعادلة أي فوائد للنمو، مع معاناة الولايات المتحدة واليابان لخسارة صافية صغيرة في الدخل (0.5% بالسالب، و0.1% بالسالب على التوالي).
وحتى إذا تبين أن الشراكة عبر المحيط الهادئ تتعارض مع المصلحة الوطنية أو العامة، فإن الدول المشاركة ملزمة بتنفيذ بنودها. وكانت جماعات الضغط القوية، من الولايات المتحدة في الأساس، حريصة على التأكد من هذا. ومن المؤسف أن هذا ليس كل ما فعلته هذه الجماعات.
برغم تصوير الشراكة عبر المحيط الهادئ على أنها اتفاقية تجارية فإنها لا تدور حتى حول التجارة حقا. فالعديد من البلدان المشاركة في الشراكة عبر المحيط الهادئ هي بالفعل من أكثر الاقتصادات انفتاحا، مع تحرير أغلب تجارة السلع في ما بينها بالفعل من خلال اتفاقيات سابقة ومبادرات من جانب واحد. وتشمل القيود التجارية الرئيسية المتبقية الحواجز غير الجمركية، مثل إعانات الدعم الزراعية في الولايات المتحدة، والتي لا تعالجها اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ.
وبدلا من ذلك، تعمل أكثر بنود الشراكة عبر المحيط الهادئ أهمية على تعزيز وتوسيع نطاق وتمديد حقوق الملكية الفكرية. وهذا من شأنه أن يعطي شركات الأدوية احتكارات أطول أمدا للأدوية المسجلة ويمنع الخيارات الأرخص ــ الأدوية السائبة والبدائل التي تُعَد مشابهة إلى حد كبير ــ من الوصول إلى الأسواق، وهو ما من شأنه أن يلحق الأذى بالمستهلكين والحكومات التي تقدم إعانات الدعم.
علاوة على ذلك، تعمل الشراكة عبر المحيط الهادئ على إضعاف التنظيم الوطني، على الخدمات المالية على سبيل المثال، وتعزيز حقوق المستثمرين الأجانب، على حساب الشركات المحلية والمصلحة العامة. وتسمح البنود الخاصة بتسوية المنازعات بين المستثمرين والدول للمستثمرين الأجانب باستغلال التحكيم الخاص الملزِم ضد الحكومات إذا تسببت قواعد تنظيمية جديدة في تقليل أرباحهم المتوقعة في المستقبل.
وسوف تُلزَم الحكومات التي تخسر هذه الدعاوى القضائية بتعويض المستثمرين الأجانب؛ ولكن حتى أولئك الذين يفوزون سوف يتحملون تكاليف قانونية باهظة. الواقع أن مدفوعات التعويضات المحتملة عن طريق آلية تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول قد تفوق وحدها بأشواط الفوائد الاقتصادية المحدودة المترتبة على الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومن المرجح أن يتسبب الخوف من تكبد مثل هذه التكاليف الباهظة في إضعاف الحوافز التي ربما تدفع الحكومات إلى تنفيذ القواعد التنظيمية التي قد تلحق الأذى بمصالح الشركات، حتى ولو كانت تخدم الصالح العام.
أخيرا، برغم أن الأثر الأكبر الذي قد يترتب على الشراكة عبر المحيط الهادئ سوف يقع خارج نطاق عالَم التجارة، فإن الاتفاقية استُخدِمَت لتقويض جهود تحرير التجارة المتعددة الأطراف. وكانت الضحية الأكثر وضوحا مفاوضات جولة تنمية الدوحة الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية، ولكن منظمة التعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والجمعية الاقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) لن تسلم من الأذى أيضا.
كان أنصار الشراكة عبر المحيط الهادئ يبالغون بشكل صارخ لسنوات في تقدير وعرض الفوائد المتوقعة من هذه الاتفاقية، في حين هونوا في الوقت نفسه من مخاطرها وتكاليفها الباهظة المحتملة، وأغلبها سوف يتحملها المواطنون العاديون. وحقيقة الأمر هي أن الشراكة عبر المحيط الهادئ لن تخلف أي تأثير ملموس يُذكَر على الناتج المحلي الإجمالي، وسوف تقتصر كل فوائدها تقريبا على الشركات، هذا فضلا عن تقييدها الشديد للحيز السياسي الذي تحتاج إليه الحكومات لدفع عجلة التنمية الاقتصادية وحماية المصلحة العامة. يا لها من شراكة!

شغل منصب الأمين العام المساعد للتنمية الاقتصادية في منظومة الأمم المتحدة،
وهو حاصل على جائزة فاسيلي ليونتيف للنهوض بالفكر الاقتصادي لعام 2007.