أ.د. حسني نصر
مع بداية شهر رمضان المبارك يتكرر السؤال حول الوقت الثمين الذي ينفقه البعض هباءً منثورا في متابعة المسلسلات التلفزيونية التي حشدت لها الفضائيات كل طاقتها على مدار عام كامل، بغية السيطرة على أعين وآذان وعقول الصائمين وهدر أوقاتهم التي يجب أن تستثمر في العبادة والأعمال الصالحة والتقرب إلى الله. عشرات البرامج والأعمال الدرامية التي تزدحم بها خريطة البث لمئات القنوات التلفزيونية سوف تتنافس بضراوة على المشاهدين، خاصة من فئة الشباب الذين يبحثون عن الترفيه في شهر الصوم المبارك. ومن المؤكد أن من لم تدركه المسلسلات سوف تدركه شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت المنافس الأول للتلفزيون. ومع تزايد استخدام هذه الشبكات في عالمنا العربي، وفي ضوء توقعات استخدامها في شهر رمضان كبديل لمشاهدة المسلسلات يصبح من الضروري أن نحذر الشباب من أن يستجيروا من المسلسلات بشبكات التواصل، وان يصبحوا مثل المستجيرين من الرمضاء بالنار.
الواقع أن المسلمين والعرب منهم تحديدا بفعل عمليات التجريف الثقافي التي يتعرضون لها منذ عقود، أصبحوا في شهر رمضان بين مطرقة التلفزيون ومسلسلاته الكثيرة التي تقدم واقعا افتراضيا غير حقيقي وسلوكيات غير حميدة، وبين سندان شبكات التواصل الاجتماعي التي تستنزف الوقت وتعرض المستخدمين لأشكال عديدة من الانتهاكات الأخلاقية. وجميعنا ندرك أن هناك آثار سلبية عديدة تنتج عن تشارك المحتوى مع عدد كبير ومتنوع من الأصدقاء الافتراضيين. وقد أظهرت دراسات علمية أن الأفراط في استخدام هذه الشبكات قد يؤدي إلى الإدمان كما قد يصيب بالأمراض النفسية مثل الاكتئاب، ويزيد الشعور بالعزلة والتفكير في الانتحار. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن بعض ما يكتبه ويشاركه المستخدم على هذه الشبكات قد يؤثر على حياته ومستقبله وعلاقاته بالأخرين. ونعلم جميعا أن أعدادا من مستخدمي هذه الشبكات يواجهون مشكلات قد تصل إلى المحاكم بسبب ما ينشروه او يشاركوه على هذه الشبكات، كما يواجهون في دول أخرى الحرمان من القبول ببعض الجامعات أو الوظائف نتيجة مراجعة صفحاتهم الشخصية على هذه الشبكات. وعلى سبيل المثال كشفت دراسة أجريت على أكبر 500 كلية في الولايات المتحدة أن 10 بالمائة من مكاتب القبول بهذه الكليات تقوم بفحص الصفحات الشخصية للمتقدمين للالتحاق بها على شبكات التواصل الاجتماعي، وان 38 بالمائة من هذه المكاتب عثرت على معلومات أثرت بشكل سلبي على قرارات القبول. وتستند إدارات بعض الجامعات وكذلك الجهات الأمنية في بعض الدول إلى الصور التي ينشرها الطلاب على صفحاتهم الشخصية في تتبع السلوكيات غير السوية ومساءلة أصحابها قانونيا. وتشير تقارير إعلامية إلى قيام رجال الشرطة في بعض الدول العربية بتفحص الهواتف المحمولة والبحث في حسابات شبكات التواصل لمن يستوقفونه للاشتباه.
ورغم هذه المخاطر فإن النمو المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي خلال فترة قصيرة من الزمن، ووصول أعداد مستخدمي بعضها مثل فيسبوك إلى أكثر من مليار مستخدم، لم يصاحبه نمو مماثل في مجال وضع أو تطوير قواعد عامة للسلوك الشخصي يمكن أن تصبح أنماطا اجتماعية مقبولة يتم الاعتماد عليها لقيادة وتوجيه سلوك المستخدمين على هذه الشبكات.
من الضروري في هذا الشهر المبارك وفي غيره أيضا أن نبصر الشباب بكيفية وضع وتطوير وتطبيق قواعد ذات طابع شخصي لاستخدام مواقع الشبكات الاجتماعية، وكيف يواجهون انتهاك الآخرين لهذه القواعد على هذه الشبكات. في هذا الإطار فان هناك نظرية مهمة تسمي نظرية الانتهاكات المتوقعة يمكن أن تفسر الأنماط التي توجه الاستخدام الشخصي لشبكات التواصل الاجتماعي، وتساعد في الإجابة عن تساؤلات تتعلق بنوعية الأفعال التي يعتبرها المستخدم انتهاكات؟ وكيف يتعامل المستخدم مع الانتهاكات على شبكات التواصل الاجتماعي التي تتميز بالتعبير اللفظي وتستند إلى التفاعل عبر الكتابة النصية، وكيف تتنوع الانتهاكات ويتنوع الرد عليها استنادا إلى طبيعة العلاقة بين المستخدمين. وتؤدي هذه الانتهاكات إلى ردود أفعال إيجابية او سلبية من المستخدمين اعتمادا على الموقف الاتصالي والعلاقة بين الأشخاص المشتركين فيه. وفي شبكات التواصل الاجتماعي فإن مثل هذه الانتهاكات ربما يكون لها تأثير مباشر وخطير على الشخص الذي يتحول إلى ممارس للانتهاكات. ولكي نفهم الانتهاكات فإننا يجب أن نحدد القواعد التي توجه الاستخدام الشخصي لشبكات التواصل الاجتماعي. في ضوء ذلك يكون السؤال التالي هو ما الأفعال التي يعتبرها المستخدم انتهاكات؟
من المهم أن نعرف كيف يتعامل الناس مع الانتهاكات على شبكات التواصل الاجتماعي التي يستخدمونها للتواصل مع عدد كبير من الأصدقاء المقربين وزملاء الدراسة وأفراد الأسرة والمعارف والغرباء، وأن نأخذ في الاعتبار كيف تتنوع الانتهاكات ويتنوع الرد عليها استنادا إلى طبيعة العلاقة بين المستخدمين.
المؤكد أن الأنماط السلوكية عندما تكون غامضة يصبح من الصعب وضع محددات لها او الاستجابة للانتهاكات المتوقعة لهذه المحددات، وبالتالي فان آداب التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي من الصعب أن تحدد في هذه الحالة لان كل من البيئة التي يتواصل فيها المستخدمون وطبيعة تشكيل الأفراد لشبكاتهم الاجتماعية عرضة للتغير المستمر. من جانب أخر فان وجود مئات الألاف من الجماعات التي تتفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي يزيد من احتمالات تنوع وتعدد وربما تداخل وتضارب القواعد والأنماط السلوكية تماما مثلما تتنوع وتتعدد وتتضارب الانتهاكات التي تتم لهذه القواعد. ولهذا يصبح من الضروري أن نحسن، خاصة في هذا الشهر الفضيل الذي تصفد فيه الشياطين، التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، بما يعين على الطاعة. ورمضان مبارك.
اكاديمي في جامعة السلطان قابوس