فضائياتٌ أم فضائحيات؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٥/يونيو/٢٠١٦ ٠١:٢١ ص
فضائياتٌ أم فضائحيات؟

زاهي وهبي

يبدو أن المنافسة الشديدة التي فرضتها الميديا الجديدة على الاعلام التقليدي تدفع كثيراً من الشاشات العربية نحو مزيد من الانحدار بدلَ أن تشكِّل لها حافزاً لرفع مستوى ما تقدمه، وكسب المشاهدين بمهنية عالية ومادة تلفزيونية راقية تحترم العقول وتخاطب الأذواق المختلفة عبر تقديم برامج متنوعة المواضيع من التسلية والترفيه الى الثقافة والرياضة والسياسة وسواها. فالشاشة التلفزيونية الناجحة هي عبارة عن مجلة منوعة أو كشكول فيه شيء من كل شيء، لكن ما نراه للأسف هو نقيض ذلك تماماً. انحدارٌ وتَرَدٍ واسفافٌ غير مسبوق يبعث على الغثيان والقرف، ويدفع الى التساؤل عن الغاية من وراء ذلك، وهل يظن القيمون على تلك الفضائيات أنهم باعتماد الابتذال يستطيعون كسب ود المشاهد العربي المثقل بألف هَمٍّ وغَمٍّ، أم هو التسابق المحموم على حصة من الكعكة الإعلانية التي تصغر يوماً تلو آخر لأن الشاشات أكثر من الهَمِّ على القلب فيما السوق الإعلانية هي نفسها. سابقاً كانت الكعكة تُقسَّم على فضائيات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، راهناً تكاثرت الفضائيات حتى تخطى عددها الألفي قناة وظلّت الكعكة على حالها. فإندلع الصراع المحموم، وما هو في جوهره سوى صراع على المال.
لا مبالغة في القول إن المال العربي هو أحد أسباب مآسي العرب. فمن جهة شكّلت الخيرات والثروات الطبيعية في بلادنا هدفاً دائماً لمطامع القوى الاستعمارية التي قسَّمت وجزَّأت وتلاعبت بمصائر الشعوب والأوطان وغرست كياناً سرطانياً خبيثاً في قلب العالم العربي فلسطين، فاصلةً المشرق العربي عن مغربه ومصر عن بلاد الشام، والجميع يعرف النتائج الكارثية للاحتلال الاسرائيلي الأسوأ من نوعه في التاريخ. ومن جهة ثانية لم يُستثمَر المال العربي في مشاريع إقتصادية بعيدة المدى ولا في صناعات استراتيجية ولا في انتاج معارف وعلوم (يبدو العرب، للأسف، اليوم في أسفل القائمة معرفياً وصناعياً وتكنولوجياً)، ولا في التعليم الذي هو أساس نهضة الأمم، ولا في التنمية الضرورية لاستقرار البلدان والمجتمعات. جلُّ مع فعله رأس المال العربي، أو معظمه كي لا نُعمّم، هو الاستثمار في المشاريع العقارية والريعية، مساهماً في نشر هاجس الربح السريع وتعميم ثقافة الاستهلاك عبر انتاج أعمال فنية رديئة وهابطة ساهمت في تراجع المستوى المهني والمعرفي لكثير من الفنون، فيما تبدو المهرجانات والجوائز الفنية والأدبية بمثابة أذرعٍ للسلطات الحاكمة، أو جزرة الهدف منها كسب رضا المبدعين أو شراء سكوتهم، فضلاً عن الوظيفة الأكثر قذارة لِبَعض هذا المال ألا وهي الانخراط في تمويل الحروب والنزاعات الأهلية، ودعم الحركات الإرهابية والمتطرفة تحت عنوان "الجهاد" الذي لم يعرف يوماً طريقه الصحيح الوحيد: فلسطين.
ما علاقة هذا كله بالمشهد التلفزيوني؟ انه في صميم المسألة ولُبِّها، لأن الفضائيات العملاقة وشركات الانتاج الكبرى مملوكة من رأس المال نفسه، ونوعية ما تنتجه ليست بريئة مئة في المئة، بل مدروسة ومقصودة بهدف أخذ الرأي العام نحو اتجاهات محددة، فضلاً عن عملية تجويف الوعي وتسطيح العقل العربي لِصرفه عن الاهتمام بقضاياه الحقيقية، ولا تفوتنا هنا إشارة الى إسهام شركات الإعلان الكبرى بقوة في هذه العملية عبر امتناعها عن تبني أي برنامج تلفزيوني ذي قيمة ثقافية أو انسانية عميقة. لِنأخذ مثلاً الدراما العربية: أي عمل على شاكلة "باب الحارة" يحظى بالدعم الانتاجي والاعلاني والترويجي، وتُرصَد له ملايين الدولارات لكونه يُكرِّس صورة نمطية معينة، علماً أنها غير حقيقية وغير واقعية، بينما تمتنع معظم الشاشات العربية عن بثّ مسلسل مثل "الاجتياح" لأنه يتناول الانتفاضة الفلسطينية، ولا يُعرَض عربياً الا بعد نيله جائزة عالمية هي "ايمي" وفي عدد محدود جداً من القنوات. حالُ "الاجتياح" حال كثير من الأعمال التي ظلَّت حبيسة الأدراج فقط لأنها تحاول مناقشة قضايا لا يرضى رأس المال عن طرحها على الملأ. أما برامج الهواة والمسابقات فحدِّث ولا حرج عن السخاء الانتاجي الذي تلقاه وعن كيفية اختيار الفائزين لاعتبارات سياسية بهدف مسايرة السلطة الحاكمة في هذا البلد العربي أو ذاك، وليت كل ما يُعرَف يُقال في هذا المجال. في المقابل لا يُصرَف مليم واحد على أي عمل جدي يناقش ويعالج، أو على الأقل يعرض، ما له علاقة حقيقية بالواقع العربي وقضاياه الجوهرية مثل التشظي المجتمعي والطائفية والمذهبية والأمية والبطالة والفساد ومحاولة فهم أسباب كل ذلك، إنها من المحرمات والخطوط الحمراء التي يرسمها رأس المال المرتهَن في معظمه، والجاهل في أحسن الأحوال، الفاقد لأي حسٍّ أو دور تنويري، ومعظمنا يعلم أي دور إيجابي لعبته البرجوازية الأوروبية في صناعة عصر الأنوار، اذ لا يمكن لنهضة حقيقية أن تقوم ما لم يتوفر لها رأس مال متنور يدفع بالمجتمع الى أمام لا الى وراء، الى "جاهلية معاصرة" أين منها الجاهلية الأولى التي نظلمها كثيراً بهذه المقارنة.
في موازاة هذه الأسباب الجوهرية والحقيقية لمأزق الانتاج التلفزيوني العربي الذي ينصرف عنه جيل الشباب الى شاشات أكثر ذكاء باتت تتيحها التكنولوجيا الحديثة، استجدت أمور كثيرة، منها كما أسلفنا، طفرة القنوات التلفزيونية في معظم البلدان العربية، وتراجع ما يسمى "الپان آراب" لمصلحة البثِّ المحلي، بحيث صار لكل مدينة تلفزيونها، ودخول القنوات العملاقة بامكانياتها المالية الضخمة التي جعلتها تحتكر انتاج البرامج القادرة على استقطاب مشاهدين من كل الوطن العربي، واستضافة كبار النجوم مقابل مبالغ نقدية لا تقوى عليها القنوات الأخرى، وعوامل أخرى كثيرة أبرزها تراجع المداخيل الإعلانية، جعلت كثير من الفضائيات تعتمد أكثر فأكثر على "المال السياسي" الذي يوظفها لأجنداته الخاصة، ما أدى الى تحولها متاريس متقابلة تنشر السموم الطائفية والمذهبية. عِوَض أن يلجأووا الى قراءة المستجدات على الساحة الإعلامية وما رافقها من نهوض وانتشار للميديا الحديثة، ومن تغيير في مزاج المشاهدين بفعل الحروب والمآسي، راح القيمون على الفضائيات العربية يحاولون جذب المشاهدين والمعلنين بتقديم برامج تعتمد على النكات الجنسية وتوقعات العّرافين والبصّارين والقيل والقال ومشاكل الفنانين وما شابه، كل ذلك بحجة "الرايتنغ" (نسبة المشاهَدة) نتيجةَ استطلاعات تجريها شركات مشكوك في مصداقيتها أصلاً.
اعتماد "الرايتنغ" أساساً في برمجة بعض القنوات، جعلها تتنافس على الأكثر تدنياً وهبوطاً لا على الأكثر مهنيةً ورقياً استناداً الى الحجة الممجوجة "الجمهور عايز كده"، فغابت عنها الحوارات الفنية والثقافية الممتعة التي تخاطب عقل المشاهد وتحترمه، وحلّت مكانها برامج فضائحية تنبش في خصوصيات الناس ومشاكلهم التي يمكن حلّها في مخافر الشرطة وأمام المحاكم، وبرامج التنجيم والتوقعات التي تنطلي على السُّذَّج والبسطاء، والمسلسلات التركية المدبلجة التي ينجح واحدٌ منها بين كل عشرة أو عشرين، فضلاً عن التراشق بين المذيعين أنفسهم، حيث بدأنا مؤخراً نشهد ولادة برامج تدَّعي أنها برامج نقدية هادفة، بينما هي مُسَخَّرَة للسخرية من القنوات والبرامج المنافِسة، وغالباً بأساليب غير مهنية وغير مقبولة.
كل ما تقدَّم يجعلنا نسأل سؤال العارف: أهي فضائيات أم فضائحيات متلفزة؟