أ.د. حسني نصر
رغم مرور نحو ربع قرن على دخول الإنترنت حيز الاستخدام الجماهيري، وتحولها إلى وسيلة اتصال جماهيرية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإن الفجوة الرقمية، كما تشير أحدث الإحصاءات الدولية في هذا المجال، ما زالت قائمة بل وتتسع عاما بعد عام، سواء بين مناطق ودول العالم، أو داخل الدولة الواحدة.
الإحصاءات التي نعنيها هي تلك التي نشرتها الأسبوع الفائت مؤسسة إحصاءات الإنترنت العالمية المعروفة باسم إنترنت ورلد ستات، وكشفت فيها أعداد المستخدمين للإنترنت وكذلك مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في مختلف مناطق ودول العالم، والتي أعادت التأكيد على إن واحدة من أهم المشكلات التي تواجه المجتمع الإنساني هي أن الأغنياء-دولا وشعوبا وأفرادا-يستفيدون من الإنترنت بصورة أكبر من الفقراء.
إذا استعرضنا هذه الإحصاءات سوف نكتشف أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم تجاوز الثلاثة بلايين ونصف البليون مستخدما، يمثلون نحو 46 بالمائة من سكان العالم. وتبرز الفجوة الرقمية في توزيع هذه الأعداد على مناطق العالم، إذ يتركز 48 بالمائة منهم في قارة أسيا، و18 بالمائة في قارة أوروبا و10 بالمائة في أمريكا اللاتينية والكاريبي، و9.8 بالمائة في أفريقيا، و9.3 بالمائة في أمريكا الشمالية، و3.7 بالمائة في منطقتنا المنكوبة الشرق الأوسط، التي تتفوق فقط على منطقة أوقيانوسيا وأستراليا، وذلك رغم ارتفاع عدد المستخدمين بنسبة 3649 بالمائة، من نحو ثلاثة ملايين في ديسمبر 2000 إلى 123 مليون مستخدما في نوفمبر من العام الماضي. وحتى تتضح الصورة الخاصة بالفجوة الرقمية، يجب أن نقول إن العبرة ليست بأعداد المستخدمين، ولكن بمعدل النفاذ أي نسبة عدد المستخدمين من العدد الكلي للسكان. في هذا الإطار تأتي أمريكا الشمالية في المركز الأول بنسبة نفاذ تصل إلى 88% من عدد السكان البالغ 357 مليونا يمثلون نحو 5 بالمائة فقط من سكان العالم، وتأتي أوروبا في المركز الثاني بمعدل نفاذ 73.5 بالمائة من عدد السكان البالغ نحو 822 مليونا يمثلون 11.3 بالمائة من سكان العالم. في المقابل فإن معدلات النفاذ تنخفض في أسيا إلى 40 بالمائة، وفي أفريقيا إلى 28 بالمائة، رغم أن القارتين تمثلان 61.5 بالمائة من سكان العالم، وهو ما يؤكد بقاء واستمرار الفجوة الرقمية، رغم ارتفاع عدد مستخدمي الإنترنت في القارتين. وعلى صعيد الشرق الأوسط يبلغ معدل النفاذ نحو 52 بالمائة من عدد السكان البالغ نحو 236 مليونا يمثلون 3.3 من سكان الكوكب.
إذا انتقلنا إلى الدول العربية نجد أن الإحصاءات تشير إلى معدل نفاذ يصل إلى 35.8 بالمائة من عدد السكان الذي يبلغ وفقا لإحصاءات العام 2014 نحو 380 مليونا، ومع ذلك فإن مستخدمي الإنترنت العرب لا يمثلون سوى 4.8 بالمائة من إجمالي مستخدمي الإنترنت في العالم. ويؤكد هذا أن الفجوة لازالت متسعة بين العرب وبين العالم فيما يتعلق باستخدام الإنترنت. وعلى مستوى دول الوطن العربي، وبصرف النظر عن ترتيب الدول العربية وفقا لأعداد المستخدمين الذي تتصدره مصر بنحو 43 مليون مستخدم، تليها المغرب، ثم السعودية، فالإمارات، والسودان والجزائر وسوريا واليمن وتونس والعراق، والتي تتأثر بالتأكيد بعدد السكان في كل دولة، فإن المهم في تحديد الفجوة الرقمية هو معدل النفاذ من عدد السكان. وفي هذا الإطار تتضح الفجوة بين دول عربية يصل فيها هذا المعدل إلى 90 بالمائة، مثل البحرين، وبين دول أخرى لا يتعدى فيها هذا المعدل 1.5 بالمائة مثل الصومال، وبينهما تتراوح نسب النفاذ بين 66.4 في سلطنة عمان، و9.2 بالمائة في العراق، و6.2 بالمائة في موريتانيا. وإذا أضفنا إلى ما سبق الفجوة الرقمية المتصلة باللغات المستخدمة على الإنترنت والتي تتصدرها اللغة الإنجليزية، تليها اللغة الصينية ثم اللغة الإسبانية، فإن اللغة العربية تأتي في المركز الرابع بعدد مستخدمين يبلغ 168 مليونا. وهو ما يؤكد وجود واستمرار الفجوة الرقمية حتى صعيد اللغات المستخدمة على الإنترنت.
ما نريد أن نقوله بعد هذا الاستعراض للأرقام والإحصاءات أن المسافة بيننا وبين العالم المتقدم ما زالت كبيرة على صعيد استخدام الإنترنت. ولعل هذا ما يدفعنا إلى مطالبة الحكومات العربية، التي بذلت جهودا كبيرة في توفير بنية رقمية تحتية جيدة في غالبية الدول وأنفقت في سبيل ذلك أموالا طائلة، بالاهتمام بدراسة وتحليل الفجوة الرقمية سواء بينها وبين دول العالم المختلفة، أو على المستوى الوطني. من المهم ونحن نتفاخر بأعداد المستخدمين الكبير في بعض بلداننا العربية أن ننتبه إلى حقيقة الفجوة الرقمية، وهي نمط من فجوة المعرفة ولكن في الفضاء الإليكتروني. ولما كان هذا المصطلح يستخدم لوصف الاختلاف بين الأفراد والجماعات والدول في الوصول إلى الإنترنت والقدرة على استخدام تكنولوجيا المعلومات الحديثة، فإن من الضروري للحكومات أن تبحث الفجوة الرقمية بين مواطنيها وسبل ردمها خاصة بين الذين يقطنون في المدن والذين يقطنون في المناطق الريفية، وبين المتعلمين وغير المتعلمين، وبين أصحاب الدخول الكبيرة وأصحاب الدخول المنخفضة.
إن الفجوة الرقمية لا تقتصر على الدول المتقدمة والدول النامية وتمتد لتشمل الاختلاف بين الناس الذين يملكون وصولا سهلا إلى الإنترنت وبين الذين لا يملكون هذا الوصول. ولذلك علينا أن ندرك مبكرا أن عدم الوصول للإنترنت يمثل ميزة سلبية لهؤلاء الذين يقفون في الجانب السلبي من الفجوة الرقمية، لأن كمًا كبيرًا جدًا من المعرفة الإنسانية أصبح لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الإنترنت، وبالتالي فإن القضاء عليها أو بالأقل تضييقها يتطلب تجسير الفجوة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية في الوصول إلى الإنترنت. إن على حكوماتنا أيضا أن تنظر إلى متغير الوصول إلى الإنترنت باعتباره متغيرًا واحدًا ضمن متغيرات أخرى تؤثر في الفجوة الرقمية، مثل جودة الاتصال بالإنترنت، وتوافر الخدمات المساندة لاستخدام الإنترنت، وتكلفة الاتصال بأسعار معقولة.
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس