إليزابيث درو
إذا كان رأيك أن حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية محيرة، فلعل هذا يعني أنك أفضل فهماً لهذه الحملة من أولئك الذين هم على استعداد للتنبؤ بنتائجها. ففي هذه المرحلة، حيث من المقرر أن يختار الحزبان الرئيسيان مرشحيهما في الانتخابات التمهيدية أو اللجان الحزبية على مستوى الولايات، لا يمكن التوصل إلى توقعات، بل هي مجرد تخمينات عن حسن اطلاع (أو عن جهل).
على سبيل المثال، يصعب عادة توقع مجريات السباق الأول الكبير في ولاية أيوا في الأول من فبراير ، لأن النتيجة تعتمد على البراعة التنظيمية أكثر من اعتمادها على الشعبية. والسؤال الرئيسي في كل من السباقين الجمهوري والديمقراطي هو ما إذا كان المرشح قادراً على حمل العدد الكافي من أنصاره على حضور المؤتمرات الحزبية ــ وهي التجمعات الصغيرة نسبياً التي تعقد في المساء في أجواء شتوية.
على الجانب الجمهوري، يقع تِد كروز ودونالد ترامب ضمن هامش الخطأ في الاقتراع لكل منهما في ولاية أيوا، وولاية نيو هامبشر التي من المقرر أن تصوت بعد ثمانية أيام. ورغم تقدم ترامب بفارق هائل في استطلاعات الرأي العامة، فإن قوته التنظيمية في أيوا غير معروفة، وما يهم هو النتائج على مستوى الولايات مع تقدم عملية الترشيح. ويتمثل التحدي الذي يواجهه في أن العديد من أنصاره لم يشاركوا فعلياً في الانتخابات قط.
ويعكس نجاح ترامب حتى الآن دهاءه وبراعته في قراءة الأحداث وإرضاء الجماهير. (فقد منحه برنامجه "المبتدئ" في تلفزيون الحقيقة قدراً كبيراً من الممارسة). فالآن أصبح جمهور الناخبين أشد غضباً وخوفاً مما كان في السباقات الرئاسية الأخيرة، ومن الواضح أنه يستفيد هو وكروز كثيراً من هذه الحال. وهذه المشاعر ــ التي كانت نتاجاً لتباطؤ التعافي الاقتصادي، وفجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الثروة والدخل، والشعور المشبع عِرقياً بانعدام الأمان (وخاصة بين الرجال من ذوي البشرة البيضاء) ــ تقود حتماً إلى السياسة المتقلبة.
كما يسعى ترامب بشكل خاص إلى توجيه نفس الغضب الشعبي على جناح اليمين الذي غذى صعود حزب الشاي في عام 2010، والذي عارض إنقاذ الحكومة للبنوك التي أحدثت الأزمة المالية عام 2008 وبرنامج الرئيس باراك أوباما للرعاية الصحية. بيد أن مرشحي حزب الشاي الذين اجتاحوا الكونجرس في عام 2010 فشلوا في الوفاء بوعودهم بإلغاء "أوباما كير" وخفض الإنفاق الفيدرالي بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى تأجيج مشاعر قسم كبير من القاعدة الجمهورية. ولهذا، جاء تفضيل الناخبين الجمهوريين المحتملين لشخص لم "يتلوث" بـ"واشنطن".
الواقع أن ترامب ــ الذي لم يحصل ما يقرب من نصف مؤيديه إلا على شهادة الثانوية العامة أو أقل منها ــ بارع بشكل خاص في إرضاء مشاعر التحيز العنصري ومعاداة المهاجرين. ويساعد نجاحه المفترض في عالم المال والأعمال (الواقع أن سجله مختلط) في إقناع أتباعه بأنه يعرف كيف يدير الأمور على النحو الصحيح، في حين يبدو في نظرهم وكأن ثروته الشخصية الهائلة تجعله غير قابل للفساد.
ولكن من الاعتبارات المهمة التي ينبغي وضعها في الحسبان أن ترامب استفاد من حقيقة مفادها أن الساحة شديدة الاتساع. فعندما ينسحب المرشحون الآخرون قد تختلف الصورة تماما. ولن يتضح لنا ما إذا كانت صورة "المؤسسة" ــ المدعومة من قيادة الحزب، مثل حاكم فلوريدا السابق جيب بوش أو حاكم ولاية نيوجيرسي كريس كريستي ــ قادرة على اكتساب الشعبية بين الناخبين إلا بعد انتهاء التصويت في ولايتي أيوا ونيو هامبشر.
كان المسيحيون الأصوليون المحافظون ــ الذين يمثلون قوة عاتية تقليدياً في اللجنة الحزبية الجمهورية في ولاية أيوا ــ يدعمون إلى حد كبير مرشحاً آخر معادياً للمؤسسة، وهو جراح الأعصاب البارز بِن كارسون. ولكن مع انهيار حملة كارسون تحت وطأة إهماله للسياسة، برز كروز بوصفه مصدر التهديد الأعظم لترامب في السباقات المبكرة.
يتسم كروز، الذي فاز بعضوية مجلس الشيوخ من الجولة الأولى في تكساس، بالذكاء والجدية وحِدة الطبع وسلاطة اللسان. وفي المناخ السياسي الحالي، يرتدي لباس الازدراء لزملائه في مجلس الشيوخ ــ وهو مكروه من قِبَلهم جميعاً تقريبا ــ وكأنه وسام شرف. ومن الواضح أن هذا النهج، جنباً إلى جنب مع سجله كأكبر عدو لبرنامج أوباما كير للرعاية الصحية في الكونجرس واستعراضه للتدين، يعود عليه بفوائد جمة.
أما أولئك الذين افترضوا ــ كما فعل كثيرون ــ أن بوش قد يفوز بترشيح الحزب الجمهوري، فإن قراءتهم للباروميتر السياسي كانت خاطئة. فلم يعد اسم بوش يمثل سِحرا، وكان جيب بوش بعيداً عن السياسة طوال ثماني سنوات عندما دخل السباق. وعلاوة على ذلك، فإن الضغوط التي تواجه أي مرشح وطني مختلفة تماما ــ فهي أكثر تضخماً وانتشارا ــ عن تلك التي يواجهها حاكم ولاية. ورغم هذا، يعتقد بعض الناس أن استبعاد بوش الآن سابق لأوانه.
ويُقال إن السناتور ماركو روبيو من فلوريدا ــ الذي يفترض أنه مرشح "المؤسسة" الذي تحرك صعوداً في استطلاعات الرأي ــ هو الاستثناء للنمط حتى الآن. ولكن استناداً إلى سجله في مجلس الشيوخ، فإن وصف مرشح المؤسسة قابل للمناقشة. ذلك أن روبيو، نموذج الشاب الذي في عجلة من أمره، اتخذ مواقف أثارت سخط القيادات الجمهورية في مجلس الشيوخ ــ على سبيل المثال، في ما يتصل باتفاق إيران النووي.
الواقع أن أسلوب حديث روبيو الأملس البارع وتراثه الأسباني يثيران توتر الديمقراطيين. ولكنه الآن خاضع لاختبار لم يشهد له مثيلا، وقد ارتكب بعض الأخطاء (بما في ذلك تصرف سخيف مثل الظهور بحذاء ذي كعب "كوبي" جعله يبدو مضحكاً بعض الشيء).
وعلى الجانب الديمقراطي، كانت الحشود الضخمة التي ظهرت لتأييد بيرني ساندرز الذي يصف نفسه بالاشتراكي الديمقراطي مدفوعة إلى حد كبير بتصورها لحالة من الظلم الاقتصادي (وهو ما يخلق تداخلاً محتملا ــ والذي لاحظه ساندرز ــ مع أنصار ترامب). وليس من المستغرب أن يشكل ساندرز ــ الموضوعي، والجدير بالثقة، والذي لا تعوقه الحاجة إلى استرضاء جماعات المصالح المختلفة في الحزب ــ تهديداً بهذه القوة للمرشحة الديمقراطية المفترضة لفترة طويلة هيلاري كلينتون. وهو يتقدم أغلب استطلاعات الرأي في نيو هامبشر، التي تجاور مسقط رأسه في ولاية فيرمونت، ولكنه يتقدم أيضاً في بعض استطلاعات الرأي في ولاية أيوا.
ولكن برغم هذا، ونظراً للمزايا التنظيمية التي تتمتع بها كلينتون (وخاصة التأييد الساحق من قِبَل ديمقراطيين آخرين من شاغلي المناصب)، فلن يعرقل طريقها نحو ترشيح الحزب لها سوى تطور درامي وغير متوقع. والواقع أن التحدي الأعظم الذي يواجهها في الانتخابات التمهيدية، وإن لم يكن في الانتخابات العامة، ربما يكن فجوة الحماس: ذلك أن دعم ترشيحها ليس عميقاً وإن كان واسعا. ولأنها تفتقر إلى الاتصال المكثف بالناخبين واللازم لتشجيعهم على الخروج لصالحها في سباق محموم، فإن وضعها باعتبارها المرشحة الأوفر حظاً قد يتحول، وعلى نحو لا يخلو من المفارقة، إلى أكبر نقاط ضعفها.
مؤلفة الكتاب الصادر مؤخراً بعنوان "يوميات واشنطن: تقرير ووترجيت وسقوط ريتشارد نيكسون".