بيتر سنجر
في الصيف الفائت، وضَعَت إحدى فراشات الملفوف البيضاء بيضها على نبتة جرجير كنت أزرعها، وقبل أن تمر فترة طويلة، كانت النبتة تَعُج بيرقات خضراء متخفية بشكل جيد على خلفية من الأوراق الخضراء. وكنت أزرع نباتات جرجير أخرى على مسافة بعيدة بعض الشيء، وكنت أقتطف الكثير من أوراقها لاستخدامها في إعداد السلطة، ولم أكن راغبا في استخدام مبيدات حشرية، ولهذا تركت اليرقات لحالها. وسرعان ما التهمت اليرقات الأوراق وصولا إلى الساق. وعندما لم يعد لديها ما تأكله، كانت النتيجة أن اليرقات التي لم تكن مستعدة بعد لبدء المرحلة التالية من دورة حياتها تضورت جوعا حتى الموت.
لقد شهدت في ذلك العالَم المصغر شيئا كنت لفترة طويلة أقبله فكريا: وهو أن التطور عملية طبيعية مجردة لا شخصية ولا تبالي برفاهة المخلوقات التي تنتجها بشكل فردي.
تفسر المعاناة الإنسانية قديما باعتبارها نتيجة لخطيئة آدم، والتي يفترض أننا ورثناها جميعا. ولكن اليرقات ليست من نسل آدم. وكان حل ديكارت لهذه المشكلة إنكار أن الحيوانات قادرة على الشعور بالألم. ولكن عندما يتعلق الأمر بالكلاب أو الخيول، فإن قِلة من الناس ربما يقبلون رأي ديكارت، حتى في زمنه. واليوم، تدحض البحوث العلمية في مجالات مثل التشريح وعِلم وظائف الأعضاء وسلوك الثدييات والطيور هذا الرأي. ولكن ألا يمكننا على الأقل أن نأمل أن تكون اليرقات غير قادرة على الشعور بالألم؟
دأب العلماء على وصف الحشرات بأنها بلا دماغ مركزي، وقيل إن كتلا عصبية مستقلة تتحكم بدلا من ذلك في أقسام مختلفة من جسم الحشرة. وإن كانت هذه هي الحال حقا، فمن الصعب أن نتصور كيف يمكن للحشرات أن تكون واعية.
بيد أن مقالا حديثا نُشِر في دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم يرفض هذا النموذج. ويزعم أندرو بارون الباحث في العلوم الإدراكية من جامعة ماكواري، والفيلسوف كولين كلاين، أن الخبرة الذاتية (الكيفيات المحسوسة) قد تكون أكثر انتشارا في مملكة الحيوان ــ وأقدم من الناحية التطورية ــ مما ندرك.
التجربة الذاتية هي أبسط أشكال الوعي. فإذا كان كائن ما قادرا على استيعاب الخبرة الذاتية، فهناك إذن شيء أشبه بأن يكون ذلك الكائن، وقد يشمل ذلك "الشيء" المرور بخبرات سارة أو مؤلمة. وفي المقابل فإن السيارة التي تعمل بدون سائق لديها أجهزة استشعار قادرة على اكتشاف العقبات التي قد تتصادم معها، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنب التصادمات المحتملة، ولكن ليس هناك شيء أشبه بأن يكون تلك السيارة.
في حالة البشر، يمكننا التمييز بين الخبرة الذاتية والمستويات الأعلى من الوعي، مثل الوعي الذاتي، والذي يستلزم وجود قشرة دماغية عاملة. تتم الخبرة الذاتية في المنطقة المتوسطة من الدماغ وليس القشرة، ومن الممكن أن تستمر حتى بعد حدوث دمار كبير للقشرة.
والحشرات لديها كتلة عصبية مركزية، تشارك كما في حال الدماغ المتوسط لدى الثدييات، في معالجة المعلومات الحسية واختيار الأهداف وتوجيه العمل. وربما توفر أيضا القدرة على تجربة الخبرة الذاتية.
الواقع أن الحشرات تشكل فئة كبيرة ومتنوعة للغاية من الكائنات. ويتمتع نحل العسل بنحو مليون خلية عصبية، وهو ليس بالعدد الكبير مقارنة بنحو 20 مليار خلية عصبية في البشر، ناهيك عن 37 مليار خلية عصبية اكتشفت مؤخرا في القشرة المخية الحديثة في الحوت الطيار (pilot whale). ولكن يَظَل كافيا أن تكون قادرا على أداء وتفسير "رقصة النحل" الشهيرة التي تنقل المعلومات عن الاتجاه والمسافة إلى الزهور أو المياه أو مواقع الأعشاش المحتملة. واليرقات، على حد علمنا، لا تملك مثل هذه القدرات. ولكنها ربما تكون واعية بالقدر الكافي الذي يجعلها تعاني عندما تتضور جوعا.
وماذا عن النباتات؟ هذا هو السؤال الذي كثيرا ما يُطرَح عندما أقترح أننا يجب أن نتوقف عن تناول الحيوانات كطعام، لأنها تشعر بالألم. كثيرا ما تُنسَب قدرات مذهلة بانتظام للنباتات، ولكن حتى الآن لا شيء من الملاحظات التي قد تلزمنا بقبول أن النباتات لديها خبرات ذاتية كانت قابلة للتكرار في ظل ظروف تجريبية مناسبة.
يقول بارون وكلاين إن النباتات لا تملك بنية تسمح لها بالوعي. ويصدق نفس الأمر على الحيوانات البسيطة مثل قنديل البحر أو الديدان؛ ومن ناحية أخرى، تتمتع القشريات والعناكب، مثلها في ذلك كمثل الحشرات، بمثل هذه البنية.
وإذا كانت الحشرات تعيش خبرات ذاتية، فإن هذا يعني أن العالم يحتوي على قدر من الوعي أكبر كثيرا مما كنا نتصور، لأن عدد الحشرات الحية كأفراد يبلغ وفقا لتقديرات مؤسسة سميثسونيان نحو عشرة كوينتيليون (الرقم واحد وأمامه تسعة عشر صِفرا) في أي وقت.
تعتمد الطريقة التي نتناول بها هذا الأمر على تصورنا للكيفية التي قد تكون عليها خبرة هذه الكائنات الذاتية، وهنا لا تنبئنا الهياكل المقارنة بالكثير. وربما اكتسبت اليرقات قدرا كبيرا من المتعة من التغذي على وليمة الجرجير إلى الحد الذي جعل حياتها تستحق أن تُعاش، برغم الطريقة البائسة التي لاقت بها حتفها.
بيد أن العكس محتمل بنفس القدر على الأقل. وعندما يتعلق الأمر بنوع من الكائنات يتكاثر بهذه الغزارة، فمن الطبيعي أن يتضور عدد كبير من نسله جوعا منذ لحظة خروجه إلى الحياة.
نحن في الغرب نميل إلى التبسم عندما نرى رهبان الجاين يزيحون النمل من طريقهم لتجنب دهسه. وينبغي لنا بدلا من ذلك أن ننظر إلى هؤلاء الرهبان بالإعجاب لأنهم يحملون الرحمة إلى منتهاها المنطقي.
هذا لا يعني أننا لابد أن نطلق حملة لحماية حقوق الحشرات. فنحن لا نعرف حتى الآن ما يكفي عن الخبرات الذاتية للحشرات لكي نقوم بأمر كهذا؛ وفي كل الأحوال، لا يزال العالم بعيدا عن الاستعداد للتعامل مع مثل هذه الحملة بجدية. ويتعين علينا أولا أن نستكمل توسيع نطاق التعامل الجاد مع الحيوانات الفقارية التي نستطيع أن نجزم بأن الشكوك في قدرتها على المعاناة والشعور بالألم أقل كثيرا.
بروجيكت سنديكيت