عربيزي!

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٩/مايو/٢٠١٦ ٠١:٣٠ ص
عربيزي!

زاهي وهبي

هل تعود اللغة رموزاً وإشارات كما بدأت؟ هل تتقلص المفردات التي نستخدمها في حياتنا اليومية أو في فنوننا التعبيرية؟ ألم تمت قبل ذلك كلمات وتنقرض أكثر أو تُوَارى بين صفحات القواميس؟ هل يفهم أحدنا اليوم نصاً تمت كتابته قبل ألف عام، باللغة نفسها التي ما زال ينطق بها، من دون الاستعانة بالهوامش التي تشرح معاني المفردات، وبالقواميس التي تُفسَّر الكلمات؟ كثيرة هي الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تخطر في البال كلما قرأنا ما يكتبه السواد الأعظم من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالعربية والانكليزية كلاً على حدة، أو بما بات يسمى ال"عربيزي" حيث صارت بعض الأحرف اللاتينية "تُنطق" بالعربية، والحرف الذي لا يقابله ما يماثله في الإنكليزية تعوِّض عنه الأرقام فيصير مثلاً الرقم ثلاثة (3) عيناً والرقم (7) حاءً وقِس على هذا المنوال، ولعل اللغات الأخرى ليست أفضل حالاً، بما فيها الإنكليزية نفسها التي تَضمُر شيئاً فشيئاً في الفضاء الافتراضي، ولا نعني بالضمور أنها تتراجع أو يقلُّ استخدامها، ما نقصده أن مفرادتها المستخدَمة في الفضاء المذكور تتقلص لتحل الأحرف والأرقام مكان الكلمات، لنلاحظ مثلاً كيف يتقلص عدد الأحرف في جملتين من خمسة أو ستة أحرف الى حرفين فقط أو الى رقم وحرف:See u= cu / for you= 4u
وطبعاً الأمثلة المشابهة كثيرة.
لئن أضفنا الإيموجي الى ما نشير اليه تكتمل في أذهاننا الصورة التي نقصدها ونشير اليها. الحالة النفسية التي يريد المرء التعبير عنها تُختَصر برمز واحد: وجه ضاحك أو وجه باكٍ، وردة افتراضية تصل إسرع من وردة حقيقية، وجه يرسل قبلة وآخر يذرف دمعة. كلها رموز باتت لكثرة استخدامها جزءاً لا يتجزأ من من ألفباء العالم الافتراضي، وقد بلغ شيوع الإيموجي أن تم اختيار الوجه الضاحك كلمة العام ٢٠١٥ من قبل معجم جامعة "أوكسفورد" من دون التحفظ على كون كلمة "إيموجي" يابانية الأصل لا إنكليزية، ويتوقع رئيس قواميس أكسفورد، كاسبر غراثوول، "أن تتسع الكتابة التصويرية بالرموز التعبيرية لسدّ ثغرة فــي اللغة، اذ لم تعد الحروف الأبجدية قادرةً على التعبير عن كل ما يدور في خلد الناس في القرن الواحد والعشرين. فالرمـوز تتسم بالمرونة والفورية، وتخلّف انطباعاً جميلاً"، وهكذا "أصبحت (الرموز) شكلاً ثرياً للتواصل بما يتخطّى الحدود اللغوية". وبات لل"إيموجي" يوم عالمي هو السابع عشر من تموز/يوليو، ومَن يدري ماذا بعد؟
وسط هذه التحولات المتسارعة التي تبدأ في التكنولوجيا ثم تتجلى في الحياة والعلاقات الانسانية واستطراداً في طرائق تعبير الكائن البشري عن نفسه، تبدو اللغة أمام تحديات غير مسبوقة، وبمقدار ما نرى الواقع مفتوحاً على أمداءَ لا متناهية بفعل تراجع أهمية الحدود الجغرافية، واتساع العالم الافتراضي ليشمل المعمورة بأسرها، وتداخل اللغات بعضها بالبعض الآخر، فإننا في المقابل نشهد عودةً في كثير من المجتمعات الى أفكار يمينية متطرفة والى نزعات شوفينية، بدا أحياناً أن البشرية قد تجاوزتها وتخلصت منها. هذه الاتجاهات الانغلاقية اذا جاز التعبير تجد أسانيدها في المخاوف التي تنتاب شرائح واسعة في الدول الصناعية المتقدمة من موجات الهجرة واللجوء الناجمة عن الحروب والنزاعات والفقر والبطالة وانسداد الأفق أمام تطلعات كثير من شعوب العالم الثالث، ومنها الشعوب العربية الرازحة تحت ثقل أزمات متراكمة وحروب مدمرة أعادت بلدانها الى ما دون الدولة الوطنية. ففي الوقت الذي تخطو فيه الشعوب الأخرى نحو نظم قارِّية مثل الأتحاد الأوروبي ودول البريكس وسواهما، نجد أن العالم العربي يعود الى خانة الطائفة والمذهب والمنطقة والقبيلة، أو الأصح أنه لم يغادر هذه الخانة يوماً. فما عرفناه من نُظم "دولتية" كان مجرد قناع يخفي كل هذا الخراب الذي تفجّر بِنَا.
ما علاقة اللغة بما نشير اليه؟ نافل القول إن حالها من حال أهلها، لكن ما نود قوله الآن أن نزعة الانغلاق التي تتصاعد في العالم تقوِّي عضد أنصار التقوقع والتمترس خلف يافطاتهم الضيقة، وبالتالي يغدو الانفتاح الذي توهمناه مجرد افتراض في عالم افتراضي، ولا يحدث فيه التلاقح الضروري المفيد والمثمر للمجتمعات المتخلفة التي متى شعرت بالخوف باتت أكثر ريبةً بالآخر وبما يمثله وما ينتجه على المستوى الثقافي الذي يشكّل جزءاً من هويته، وبالتأكيد فأن اللغة ليست فقط الوعاء الحامل لهذه الهوية، بل جزء من كينونتها وصيرورتها. يكفي أن نذكّر بالحالات التي تعرض فيها بعض الناس للمضايقة والتمييز والعنف اللفظي لمجرد أنهم نطقوا بالعربية على متن طائرة أجنبية أو في مقهى أو "سوبر ماركت"، لندرك أي حال بلغها عالمنا المعاصر، وهذا يستحق توسعاً في تحليله نعود اليه في مقالة أخرى.
بين واقع تصطدم فيه مصالح القوى العظمى المهيمنة بمصالح الشعوب العربية من المحيط الى الخليج، وفضاء افتراضي أزال الحدود بين البشر على اختلافهم تترنح لغة مَن هو أضعف. وضعف أي أمة ينعكس ضعفاً في علاقة أبنائها بلغتهم، واستلاباً نحو لغة السيد المسيطر، وهكذا نرى شرائح ممن يتوهمون أنفسهم أشباه ذاك "السيد" يترفعون على لغتهم ويرطنون بلهجة هجينة بلغة القوي عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً، ويزداد الأمر سوءاً مع كوننا مجتمعات مُستهلِكة لا مُنتِجة، الأمر الذي ينعكس على لغتنا التي لا تبذل "مجامعها" المعنية الجهد اللازم لتعريب ما يطرأ في الحياة من كلمات جديدة، أو حتى لاستنباط واشتقاق مفردات جديدة سهلة اللفظ جميلة ومحببة، وليس على شاكلة: الشاطر والمشطور وبينهما الكامخ.
يتوقع الخبراء زوال حاجز اللغة بين الناس في العشر المُقبِلات، بفعل تطور وسائط الترجمة الفورية، ما يعني أن البشر سوف يستطيعون التخاطب في ما بينهم كلٌّ بلغته، فيما تتولى التكنولوجيا الذكية مهمة الترجمة الفورية، ربما من خلال زرّ صغير يشبه سماعة الأذن، ولهذا الأمر انعكاس هائل على علاقة الناس بلغات سواهم وما تنتجه تلك اللغات من علوم ومعارف.
من الآن الى حينه تبدو لغتنا العربية أكثر من سواها بحاجة الى تمتين علاقة بنيها بها، والى تقريبها من شرائح واسعة تفضّل ال"عربيزي" وتكتبه واقعاً لا افتراضاً!
للبحث صِلة.