أسعار الفائدة السلبية والوعد الزائف

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٩/مايو/٢٠١٦ ٠٠:١٨ ص
أسعار الفائدة السلبية والوعد الزائف

روبرت سكيدلسكي

بوصفي كاتب سيرة ومن أشد المعجبين برجل الاقتصاد جون ماينارد كينز، يسألني بعض الناس أحيانا: "ماذا كان كينز ليرى في أسعار الفائدة السلبية"وهو سؤال وجيه، فهو يذكرنا بعبارة وردت في النظرية العامة لكينز حيث يشير إلى أن الحكومات، في حال عجزت عن التفكير في أي تصرف أكثر معقولية لعلاج البطالة (ولنقل بناء المساكن)، فإن دفن زجاجات مملوءة بالأوراق النقدية ثم الحفر لاستخراجها مرة أخرى ربما يكون أفضل من لا شيء. وربما كان ليقول نفس الشيء عن أسعار الفائدة السلبية: التدبير اليائس الذي اتخذته حكومات لم تتمكن من التفكير في أي حل آخر.
إن أسعار الفائدة السلبية تمثل ببساطة آخر الجهود العقيمة منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008 لإحياء الاقتصادات بالاستعانة بتدابير نقدية. وعندما فشل خفض أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ من الانخفاض في إحياء النمو، لجأت البنوك المركزية إلى ما يسمى التيسير الكمي: ضخ السيولة إلى شرايين الاقتصاد من خلال شراء سندات حكومية وغيرها من السندات الطويلة الأجل. وقد حقق التيسير الكمي بعض الخير، ولكن في الأغلب الأعم احتفظ البائعون بالنقد بدلا من إنفاقه أو استثماره.
وهنا يأتي دور أسعار الفائدة السلبية. انغمست في هذا النهج البنوك المركزية في الدنمرك، والسويد، وسويسرا، واليابان، ومنطقة اليور. والآن بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وبنك إنجلترا يستسلمان للإغراء.
الواقع أن عبارة "سعر الفائدة السلبي" مصممة في ما يبدو لإرباك الجميع باستثناء الخبراء. فبدلا من دفع فائدة على احتياطيات البنوك التجارية "الزائدة" التي يحتفظ بها البنك المركزي، يفرض البنك المركزي ضريبة على هذه العوائد. وتتلخص الفكرة في استحثاث البنوك على الحد من أرصدتها غير المنفقة وزيادة قروضها أو استثماراتها. وفي حالة البنك المركزي الأوروبي، هناك سبب فني: زيادة المعروض من السندات من الفئة العالية لصالح برنامج الرئيس ماريو دراجي الجاري من التيسير الكمي.
المفترض أن تعمل هذه السياسة من خلال المواءمة بين سعر الفائدة في السوق ومعدل الربح المتوقع، وهي فكرة مستمدة من الاقتصادي السويدي نوت ويكسل. والمشكلة هي أنه كان من المتصور حتى الآن أن أسعار الفائدة الاسمية من غير الممكن أن تهبط إلى ما دون الصِفر، لأن معدل العائد المتوقع للمستثمر على أي استثمار جديد من الممكن أن يهبط بسهولة إلى الصِفر أو أقل عندما يكون الطلب الكلي كاسدا.
وتُعَد أسعار الفائدة السلبية أحدث المحاولات للتغلب على عدم التوافق بين حوافز المقرضين والمقترضين. ولابد أن تعمل زيادة التكلفة التي تتحملها البنوك التجارية لحفظ أموالها لدى البنك المركزي على خفض تكلفة القروض التجارية. والفكرة أنه من المنطقي بشكل أكبر للبنوك التجارية أن تضع أموالها في التداول، سواء من خلال تقديم القروض أو شراء سندات الحكومة وغيرها من السندات، مقارنة بسداد فائدة للبنك المركزي في مقابل حفظ تلك الأموال.
ولكن، كما أشار البنك الدولي، قد تخلف أسعار الفائدة السلبية تأثيرات غير مرغوبة. فمن الممكن أن تؤدي إلى تآكل ربحية البنوك من خلال تضييق هوامش أسعار الفائدة. ومن الممكن أيضا أن تشجع البنوك على الإفراط في خوض المجازفة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى نشوء فقاعات الأصول. وربما تتسبب أسعار الفائدة المنخفضة على الودائع في جعل قطاعات واسعة من الاقتصاد معتمدة على النقد، في حين ربما تناضل شركات التقاعد والتأمين لتلبية التزاماتها الطويلة الأجل بسعر فائدة اسمي ثابت.
ولكن بعيدا عن هذه المشاكل، تتمثل الحجة الحقيقية ضد أسعار الفائدة السلبية في حماقة الاعتماد على السياسة النقدية وحدها لإنقاذ الاقتصادات من ظروف الكساد. ويعبر كينز عن هذا باختصار فيقول: "إذا استسلمنا لإغراء التأكيد على أن المال هو المشروب الذي يحفز النظام على العمل بنشاط، فمن الواجب أن نذكر أنفسنا بأن المزالق كثيرة على طول الطريق". والواقع أن قائمة "المزالق" التي ذكرها تستحق التنويه:"في حين يمكننا أن نتوقع زيادة في كمية المال... للحد من سعر الفائدة، فإن هذا لن يحدث إذا كانت تفضيلات السيولة بين جماهير الناس تتزايد بسرعة أكبر من كمية المال؛ وفي حين يمكننا توقع انحدار سعر الفائدة... لزيادة حجم الاستثمار، فإن هذا لن يحدث إذا سجلت توقعات الربح هبوطا أسرع من سعر الفائدة؛ وفي حين يمكننا توقع زيادة حجم الاستثمار... لزيادة فرص العمل، فقد لا يحدث هذا إذا كان الميل إلى الاستهلاك في تناقص".
تماما. فالاقتصاديون مشغولون الآن بتصميم تدابير فَذَّة جديدة من السحر النقدي تحسبا لفشل أحدث السياسات: فرض الضريبة على الاحتياطيات النقدية، أو حتى إلغاء النقد تماما، أو على طرف النقيض الآخر، إمطار السكان بما يسمى "الإنزال بالهليوكوبتر" لنقود مطبوعة حديثا.
ولكن الحقيقة هي أن الطريقة الوحيدة لضمان وضع "المال الجديد" في التداول هو جعل الحكومة تتولى إنفاقه. فالحكومة تستطيع أن تقترض الأموال من البنك المركزي مباشرة وتستخدمها لبناء المساكن، وتجديد شبكات النقل، والاستثمار في التكنولوجيات الموفرة للطاقة، وما إلى ذلك.
من المؤسف أن أي تمويل نقدي للعجز العام على هذا النحو يُعَد من المحرمات في لحظتنا هذه. فهو يتعارض مع لوائح الاتحاد الأوروبي التنظيمية ــ ويعارضه كل من يرون في الصعوبات المالية التي تواجهها الحكومات بعد الانهيار فرصة لتقليص دور الدولة.
عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.