الاستثمار ما بين النمو والتنمية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٦/مايو/٢٠١٦ ٠٥:٤٢ ص
الاستثمار ما بين النمو والتنمية

محمد محفوظ العارضي

عندما تحدث عالم الاقتصاد آدم سميث عن تحرير السوق من تدخل الدولة، سئل:" كيف يمكن إقناع الشركات والمؤسسات الخاصة بأن تلتزم المصلحة العامة في سلوكها وسياساتها؟" فأجاب أن للسوق آليته الخاصة في الإلزام، وهي تلاقي مصالح مختلف القطاعات تلقائياً وبدون تقرير مع مصلحة الجمهور، وأطلق سميث على هذه النظرية إسم "اليد الخفية للسوق".
كلام سميث كان ثورياً في حينه، إذ غلبت في تلك المرحلة من التاريخ سيطرة السياسة على الاقتصاد، وبات النشاط الاقتصادي مسخّراً في نتائجه لخدمة النخبة الحاكمة فقط. لكن مع تطور قوة الشركات الخاصة، حلت هذه الشركات محل النخبة السياسية، وأصبحت ثمار النشاط الاقتصادي تصب في خدمتها فقط وحُرمت الملايين بل والمليارات من الشعوب على امتداد العقود الماضية من ناتج عملها وشقائها. لذلك أصبح الحديث عن النمو منفصلاً عن التنمية ولم يعد المفهومان متلازمان كما يفترض أن يكونا.
العلاقة بين النمو والتنمية، تماماً كالعلاقة بين الرافد والنهر، أو بين النهر والبحر، وبتشبيه أكثر دقة، هي العلاقة بين المطر والزارعة. على النمو أن يغذي التنمية، وبالتحديد أن يترك آثاره الواضحة على مستوى الكفاءة البشرية كي تكون مؤهلة لاستكمال مهماتها في خدمة مجتمعها واقتصادها مهما بلغت هذه المهمات من صعوبة.
هنا يكمن أحد أخطاء ممارساتنا السابقة، ليس على مستوى الاقتصادات المحلية فحسب، بقدر ما هي على مستوى الاقتصاد العالمي، إذ حققت الشركات الخاصة تحديداً معدلات ربح خيالية خلال السنوات القليلة الماضية. لكن عوائد هذه الأرباح على التنمية البشرية والاجتماعية، وعلى تأسيس بنية تحتية قادرة على إنتاج أشكال العمل الاقتصادي المناسب لكل مرحلة، كان محدوداً بل غائباً في معظم الساحات. ولو لم يكن الحال هكذا، لما رأينا أن أكثر الدول ثراءً بالموارد الطبيعية- وهنا أقصد الكثير من دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية- تسكنها أكثر الشعوب فقراً.
لسنا بحاجة لاستعراض العدد الكبير من الشركات، الأجنبية على وجه التحديد، التي حققت أرباحاً تجاوزت في قيمتها الناتج الوطني للكثير من الدول، حتى ندلل على صحة هذا الكلام.
ولسنا بحاجة للتحفظ بعد الآن من الإشارة إلى الخلل في منظومتنا الاقتصادية العالمية، فالكثير من الأصوات سبقتنا في هذا السياق، وبات النقد اليوم مختلفاً عما كان في السابق حيث كان يوضع في سياق الصراع بين النظريات الاقتصادية المختلفة التي تنتصر إحداها للتأميم وتنتصر الأخرى للتخصيص، بل صار انتصاراً للإنسانية والمستقبل، انتصاراً للشكل الذي يجب أن يكون عليه الاقتصاد العالمي من حيث المعايير والأخلاقيات والغايات.
لقد ساهم في هذا الخطأ منظومة كاملة من المفاهيم التي حان الوقت لمراجعتها على ضوء تجربة عقود طويلة مضت، وعلى رأس هذه المنظومة، طبيعة العلاقة بين القطاع الخاص والدولة، تحديد الصلاحيات بين الطرفين، وتحديد الغايات من أي عمل اقتصادي، وتوجيهها نحو خدمة هدف واحد، وهو ترسيخ آثارها في الأرض ولا تذهب هباء منثوراً.
ويبدو أن يأس الدول النامية- أو تلك ما دون النمو- من البدء بمسيرة التنمية بمواردها الطبيعية والبشرية الخاصة وبأهدافها الخاصة، قد ساهم إلى حد كبير في تعميق منظومة الأفكار هذه، حتى صارت الخصخصة مفتاح الحل لكل المشكلات، مهما أنتجت هذه الخصخصة من مشكلات. إن طبيعة هذه المرحلة من التاريخ تختلف عن تلك التي حرر فيها "سميث" الأسواق من هيمنة السياسيين حيث بات من الضروري اليوم مراعاة أهمية استقرار الدولة واستقرار مجتمعها والحفاظ على تركيبته من أي عامل تفكيك خارجي، ولا يمكن لهذا الاستقرار أن يتحقق إلا بمقدار سيطرة الدولة على مقدراتها، وقيادتها لمسيرتها الشاملة بما فيها مسيرة التنمية.
لا نقول هنا بأن جذب الاستثمارات الأجنبية سياسة خاطئة، بل ضرورية لبعض البلدان التي تحتاج للرساميل والخبرات الأجنبية في تعزيز ناتجها المحلي، ولجميع البلدان التي تسعى إلى تعزيز التجربة والخبرات ودمجها بالتجارب العالمية الناجحة. ولكن الخطأ في هذا الأمر، أن تكون الإغراءات المقدمة للشركات الأجنبية محصورة في الأيدي العاملة والموارد الرخيصة والبيئة شبه الخالية من الضرائب، فدوافع الاستثمار في أي بلد تؤسس لثقافته التي ستتحكم بمخرجاته ونتائجه، وتحدد حجم المسؤولية الملقاة على عاتق هذه الشركات تجاه تنمية البلد التي تعمل فيه، وتجاه الارتقاء بمستواه الاجتماعي والاقتصادي.
نحن في سلطنة عمان، منفتحون على الاستثمار الأجنبي. والخلاصة التي خرجت بها تجربتنا التنموية في السلطنة، هي أن على التنمية أن تكون مستدامة في نتائجها، حذرة في مسيرتها، وواعية لاحتياجاتنا المستقبلية، حتى لو كانت خطى هذه التنمية بطيئة، المهم أن تحقق نتائج ثابتة وليست لحظية فقط. كما أننا لسنا يائسين إلى درجة تسليم القطاع الخاص زمام مسيرة التنمية، أو تسليمها للقطاع العام وحده بالمقابل. بل نرى ضرورة عميقة لتنسيق جهود القطاعين، وأن تساهم كافة الجهود في رسم ملامح مستقبل السلطنة.
على هذا الأساس نرحب بالاستثمار الأجنبي، بل ونعد المستثمرين بأن استدامة مشاريعهم ونمو أرباحهم ستكون بمقدار ما تعكسه هذه المشاريع من نتائج إيجابية على صعيد تحقيق رؤيتنا تجاه دولتنا وتجاه مجتمعنا، فهل من الممكن أن نتصور ارباحاً مستدامة إلا في إطار قاعدة اجتماعية مستقرة ومتطورة في مستويات معيشتها؟.

رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العماني، ورئيس مجلس إدارة شركة "إنفستكورب"